أذهب إلى المكتب في الصباح. أوراق كثيرة،
معظمها جرائد، على المكتب وما حوله، تنتظر من يصنفها. في الذهن أفكارعميقة متعددة
أود الكتابة فيها. أتخيل أنني سأبدع إن عالجتها. من مسألة دربفوس في 24
تشرين الأول 1894، قبل 120 سنة بالضبط، إلى حادثة العدوان الثلاثي على مصر وما أتى به من مجزرة كفر قاسم في 29 تشرين الأول
1956. مسألة دريفوس؟ هل تجهلونها؟ إنها الدلالة على فشل الثورة الفرنسية التي ابتدأت عام 1789 وامتدت
سنوات. كان اليهود في طليعة من لعب دورًا في الثورة، ولهم في ثلاثيها شعار المساواة. إلا أن الثورة لم تنجح حقاً في المساواة بينهم وبين غيرهم من الفرنسيين. والشاهد الضابط دريفوس
الذي اتهم بالخيانة وجرد في حفل عام من
أوسمته وسمع الجماهير تعيره بأنه يهودي
خائن وتنادي أيضاً بالموت لليهود. ثم ثبت -- بالتاريخ الفرنسي الرسمي-- أنه بريء،
وأن من أوقع به زميل له، كاثوليكي نبيل الأرومة. شهد هرتزل ما جرى في ساحة
المدرسة العسكرية في باريس فقرر أنه بحاجة
إلى دولة لليهود. وكان الأمر. أنشأ هرتزل المنظمة الصهيونية العالمية عام 1947
وكانت دولة، عام 1948، هي الاكثر عنصرية في التاريخ. انقلبت العنصرية الفرنسية ضد
اليهود إلى عنصرية صهيونية ضد الفلسطينيين والعرب. في برنامج العمل الذي
وضعته للعقد العاشر من وعد بلفور أقول أن
عام 2014 ينبغي أن يكرس للبحث في مسألة دريفوس وما آلت إليه وما ولدته. لم أفعل
حتى الآن. أقرر الكتابة المفصلة الموثقة عن دريفوس فيوقفني، إذ أهم، سؤال أول :
كيف بالإمكان أن تكتب عن العنصرية الصهيونية وأنت في مهب عنصريات مماثلة تحيط بك ؟ ثم يدهمك السؤال الثاني ، المفخخ منذ
عقود : ما الجدوى؟ أتحايل فأجيب: لا تهمني
الجدوى. كثيرة هي الكتابات -- ومنها بالطبع
كتاباتي – التي لم يكن لها جدوى . أعلل النفس: من الصعب إثبات الجدوى المباشرة.
أما الجدوى غير المباشرة فأمر تقرير
جدواها أصعب. تتزاحم الأفكار عن إمكان
الكتابة في أمور ذات جدوى أسرع وأنجع.
تتصارع الأفكار حتى تفقد قوتها.
يتبدد الشوق إلى الإبداع عن طريق الكتابة . انقلب مصنفاً. أرتب الأوراق. أعيد
ترتيبها. أهيئها لإبداع آت . وأعلم أنه قد
لا يأتي. إلا أن التصنيف عمل مريح . تؤول الوقفة
الصباحية إلى جلوس طويل في المكتب، لا منتشياً بكتابة أحسبها قادرة على التغيير، بل مصنفاً. أرتب الأوراق
على نحو معين، ثم أعيد ترتيبها على نحو آخر. يتملكني شعور بالرضى بأنني أنجز.
وأعلم يقيناً أنني لم أنجز. وأعلم في شبه يقين أن ما صنفت لن يكون له نفع في
الكتابة الإبداعية المأمولة، إلا أن نهاراً انقضى دون ملل يعاني منه كثيرون ممن
بلغوا من العمر ما بلغت.