تعود إحدى حكايات
«إبداع» الكرواسان إلى حصار الأتراك لفيينا عام 1683، وهو عام بدء تراجعهم في أوروبا.
تقول الحكاية إن الخبّازين في فيينا، وهم الذين ينهضون باكراً إلى أعمالهم كي يصنعوا
خبز الصباح أمام الناس، شعروا ذات يوم من أيام الحصار، أن ثمة حركة تحت أرض العاصمة
النمسوية. أخبروا السلطة. فتبيّن أن الأتراك يحفرون أنفاقاً لينقضوا من خلالها على
المدينة المحاصَرة.
أحبط الجيش النمسوي
المحاولة، وابتدأ التراجع التركي عن فيينا وفي أوروبا. أحبت السلطة إكرام الخبازين.
فوهبتهم كميات من الطحين والسكر. وقرّر الخبازون ردّ الجميل. وهكذا، إكراماً للجيش
وللسلطة، أبدعوا بفائض الطحين والسكر فطيرة خبز محلّاة هي الهلال ـ والترجمة الفرنسية
لها: الكرواسان، وكان الهلال رمزاً للجيش التركي ـ دعماً لروح النمسا المعنوية. كيف
يكون الكرواسان دعماً؟
يقال: يشعر النمسويون
بالانتصار المستمر على الإتراك إذ يلتهمون رمز عدوهم. تذكّرني الحكاية عن الكرواسان
بما قامت به هند من أكل كبد الشهيد حمزة. تذكرني بما قام به، أمام آلات التصوير، إرهابيّ
في بلادي حين مضغ كبد شهيد سوريّ.
لا أذكر متى عرفت
حكاية الكروسان، ولكنّني استفدت منها في محاضرة مطوّلة ألقيتها عام 1997، في بروكسل
تحت عنوان: «الإسلام وأوروبا». كان ذلك ضمن إطار مؤتمر حاشد حظي برعاية رسمية عربية
وأوروبية. في تلك المحاضرة ورد السطر التالي: «سيولد ذات يوم من بين شبيبة البلدان
الإسلامية متطرّف إسلاميّ تغذّى على الكرواسان حين يعلم قصة الكرواسان». صفحة 359 من
كتاب: العلاقات العربية الأوروبية: حاضرها ومستقبلها، باريس، مركز الدراسات العربي
ـ الأوروبي، 1997
.
كان من المشاركين
في المؤتمر السيد كلود تشيسون، وزير خارجية فرنسا وهو يحظى باحترام عربي عام. راقت
له فكرة التحذير من قدرة الكروسان على خلق متطرّف مسلم. أذكر أنه قال في مداعبة عابرة:
«لا أظن أن لدى الأوروبيين مانعاً من أن يعدّلوا اسم الكروسان إلى كروا ـ أي الصليب
ـ لا مانع لدينا من الكفّ عن أكل هلال المسلمين، وأن نستعيض عن ذلك بأكل صليبنا». وأجبته:
«بل لماذا لا ننفي عن الكرواسان تهمة العداء لرمز المسلمين؟ لماذا لا نقول إن الهلال
يدعمنا روحياً كما يدعمنا روحياً تناولُنا قطعة من جسد المسيح: خذوا كلوا، هذا هو جسدي…».
لماذا لا نعيد تفسير الكرواسان، ننفي الحكاية التاريخية المتداولة، ونجعل للكرواسان
حفلَ ميلاد آخر يدلّ على إعجاب أوروبيّ بحضارة العرب والمسلمين؟
كانت محادثة طريفة.
كانت مشاغبة هامشية في الانتروبولوجيا الدينية، مشاغبة عابرة قد تترك أثراً في الذاكرة،
ولا يخطر في البال أن تترك أثراً على الأرض.
هل منها، أم من غيرها،
أتى أثر في جريدة؟ لا أدري. كان ما قلته في نصّ المحاضرة، ثم في المحادثة العابرة عمّا
ورد فيها عن الكرواسان، تذكرة للأوروبيين عن مظاهر عدائية في ثقافتهم إزاء ثقافة العرب
والمسلمين. لم أطالب بشيء في موضوع الكرواسان. طالبت بأمر واضح في شأن سليمان الحلبي:
«على الأوروبين اعتباره مقاوماً شريفاً يشرّف بلاده ويشرّف الإنسانية». طالبت بأن يتحدث
دعاة حقوق الإنسان في الغرب عن أول هيئة لتنظيم الدفاع عن حقوق الإنسان في العالم،
وهي حلف الفضول المكّي الجاهلي المبارك إسلامياً.
هل من المحاضرة أو
من غيرها ظهر أثر في جريدة؟ لا أدري. لا أحتكر العلم بحكاية الكرواسان. لا أقول إن
العلم بالحكاية واسع الانتشار، لكنّني حتماً لست وحدي، بين السوريين والعرب، العارف
بتلك الحكاية. ذات يوم قرأت في جريدة «الوطن» الدمشقية، ان جهة «شرعية» في أحد الأمكنة
السورية الواقعة تحت سيطرة المتطرّفين، أفتت بتحريم صناعة الكرواسان وأكله. ما أزال
منذئذ أتساءل بين وقت وآخر: ما موقع «ثقافة الكرواسان» في المجتمع التركي المعاصر؟
هل تثير الحكاية المتداولة عن ظروف إبداع الكرواسان أصداء في تركيا المعاصرة؟ هل أثارت
أصداء في الدولة العثمانية؟ هل في تركيا كرواسان؟ لا أدري. كذلك لا أدري مدى الجدّية
في تطبيق تلك الفتوى في مكان سوري قيل إن الفتوى صدرت عن جهة شرعية فيه.
شهدت مؤخراً مناسبة
أيقظت في ما أعادني إلى حكاية الكرواسان. أكتفي بهذا القدر من الإشارة. قد توجب المناسبة
عليّ القيام بمسعى خير، ينتفي نفعه أن استعجل قبل أوانه..
وأنتهي، في هذه المشاغبات،
إلى تخصيصنا يوم الاثنين في سورية ـ وفي غيرها من الدول العربية، كما أظن ـ عطلة أسبوعية
للحلاقين. أليس في تخصيص يوم الاثنين علاقة بالعطلة الأسبوعية الفرنسية ـ والأوروبية
ـ يوم الأحد؟ لم أبحث ولا أدري. لكنّني أفسّر الأمر على النحو التالي، وأرحّب بكلّ
رأي مثبت أو مخالف. على الحلاق أن يعمل يوم الأحد، حين يعطّل الآخرون. على الحلاق أن
يمارس مهنته في تزيين» زبائنه كي ينعموا بشكل حَسَن في يوم عطلتهم، والاسم الاحلى للحلاق
هو «المزيّن». هكذا اذن، يضحي الحلاقون بيوم العطلة الشائع يوم الاحد، فيعملون. ثم
يستمتعون بعطلة خاصة بهم يوم الاثنين.إذا صحّ تفسيري لتخصيص الاثنين عطلة للحلاقين.
فمعنى ذلك أن تعطيل الحلاقين عندنا في يوم الاثنين، يفصح عن تقبل تقليد غربي له في
جذره بعد ديني. هل نعي هذا الامر، إن صح؟ هل وعينا له، إن صح، يوجب علينا إعادة النظر؟
ولا نهاية للمشاغبات
الفكرية في الانتروبولوجيا الدينية. والحل الأفضل لتلك المشاغبات ليس في عدم إثارتها،
بل في التحلّي باتّساع الأفق الفكري حين ننظر إليها. وقد يكون للحديث صلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق