الخميس، 7 يونيو 2012

حكايتي مع دولة الرئيس حسن الحكيم من خلال رسالة قديمة

(1)

ماذا يفعل المرء برسائل قديمة إذا تهيأت له ظروف للنظر فيها وتدقيقها قبل إتلافها؟

ينظر بها ويستعيد مناسباتها، ثم يقرر إما أن يحتفظ بها، أو يتلفها، أو يكتب عنها قبل الحفظ أو الإتلاف.

اخترت أن أكتب عنها أولاً. أما الرسالة التي أقنعتني بهذا الحل فكانت ذات خط جميل وأسلوب أجمل وكاتبها رجل الدولة الكبير الأستاذ حسن الحكيم رئيس وزراء سورية في أوائل الأربعينيات وأوائل الخمسينيات.

(2)

كان الحكيم سياسياً ورجل دولة ومؤلفاً وموثقاً في آن واحد. اشتهر بنزاهته وتواضعه. يقال أنه، وهو الابن العريق لدمشق العريقة، وهو رئيس الوزراء لمرتين. كان، وهو في سمو المنصب وقبل المنصب وبعده، يأخذ كيساً فيتجول في الأسواق ليملأ الكيس بحوائج البيت من خضار وفواكه. يقف مع الناس، ويوقفه الناس، ويتبادل الحديث معهم، ولا يقول انه مستعجل وأن الوقت ضيق. هو حتماً لم يكن من أولئك الذين عناهم الشاعر يوسف الخطيب حين أنشد في الستينات ذلك البيت الرائع:

كم جئتَ باب أخ في الصعب تطرقه             تطيل بث شكاة وهو يختصر

هل أقول: رحم الله أيام زمان؟ لا! بل أقول: مبارك ذلك المسؤول الذي يقف عند لهفة الناس، في أيام خوالٍ وفي أيامنا هذه وفي القابلات منها.

ولد الحكيم عام 1886 في حي الميدان بدمشق، وتوفي عام 1982. له عدد من الكتب منها اثنان عن خبراته كسياسي ورجل دولة. ومنها واحد وثائقي مختص بما كان يعرف باسم القضية السورية. ومنها كتاب –وربما أكثر- عن زعيم سوري شهير كان الحكيم من كبار مؤيديه وأصحابه هو الدكتور عبد الرحمن الشهبندر.

(3)

أما الرسالة الجميلة خطاً وأسلوباً فقد سررت بها كثيراً حين تلقيتها. ثم ما لبثت بعد قراءتها أن خجلت منها. ثم نسيتها. إلا أن الخجل عاودني إذ قرأتها بعد أن عثرت عليها. ربما أن ما يدفعني إلى نشرها الآن إنما هو الشعور بواجب التشارك في الخجل مع غيري من ... مراقبي الفكر والنشر.

وهذا نص الرسالة:

                                دمشق الأربعاء 12 محرم 1396 و 14 كانون الثاني 1976

سيادة الدكتور جورج جبور مدير الدراسات في القصر الجمهوري

علمت أن مسودات الكتابين – صفحات من حياة الشهبندر، ومن هنا وهناك – اللذين قدمتهما إلى وزارة الإعلام من أجل السماح لي بطبعهما رفعا إلى سيادتكم لدراستهما وإبداء الرأي فيهما وأنهما كانا موضع عنايتكم واهتمامكم فأشكركم وأضاعف الثناء على لطفكم وإليكم ما طلبتم بشأنهما من وثائق:

كتاب صفحات من حياة الشهبندر:

إن ما جاء في الكتاب عن حياة المغفور له الدكتور شهبندر كافية نتيجة صحبتي الطويلة له وعملي وإياه في الحقلين القومي والوطني ووقوفي خلال ذلك على ما كان يتحلى به من علم وأدب ووطنية وإخلاص وتضحية وجهاد وما إلى ذلك من حميد الصفات. أما النماذج التي ذكرتها من خطبه ومقالاته وكلماته فأنها مأخوذة عن الصحف التي كانت تنشرها في حينها ومن كتابه القضايا الاجتماعية الكبرى، وأما عن كيفية استقباله عند عودته إلى دمشق وعن حادث اغتياله ومحاكمة قتلته فمنقول عن الصحف أيضاً وعن صور المرافعات التي قدمها إلى المحكمة محامو الادعاء أمثال الأستاذ فؤاد القضماني والدكتور منير العجلاني.

كتاب من هنا وهناك:

إن ما تضمنه هذا الكتاب من أسماء رؤساء الدولة والجمهورية وأسماء المفوضين السامين الفرنسيين كان مما كنت أدونه شخصياً كعامل في القضية السورية. أما ما كتبته عن الحياة الحزبية داخل البلاد وخارجها فمصدره ملخص برامج الأحزاب. وأما ما كتبته تحت عنوان - رأيي الشخصي في بعض الشؤون الحكومية والاجتماعية- فهو نتيجة خبرتي في الحكم وما أصبحت قانعاً به شخصياً من الشؤون المذكورة سواء كنت مصيباً أو مخطئاً. وذكريات الماضي هي من مدوناتي بالطبع. أما قضية اسكندرون فمصدرها كتاب الدكتور مجيد خضوري العراقي.

وتفضلوا بقبول وافر الاحترام.

حسن الحكيم

رئيس مجلس الوزراء السوري سابقاً

(4)

لم يأتني المخطوطان بتكليف رسمي. أتى بهما إلي صديق إعلامي انتقل إلى رحمة الله هو الأستاذ محمود كامل. وأذكر أنه أتى بهما إليّ بصفتي الشخصية بعد أن امتنعت وزارة الإعلام عن إبداء الرأي فيهما. أ ذكر أنني أبديت رأياً شخصياً باستحسان إعطاء اذن بالنشر. ثم علمت لاحقاً أن الكتابين نشرا في الأردن.

لكن قصتي مع حسن الحكيم لم تنته عند ذلك الحد.

ذات صباح، قبل الرسالة أو بعدها، إذ دخلت القصر ماراً بمكتب الاستعلامات، فوجئت بهدية مقدمة إليّ هي كتاب أنيق خط مؤلفه لي إهداءً لطيفاً بخط جميل. قال مسؤول الاستعلامات: أتى رجل تقدم به العمر إلى المكتب في الثامنة صباحاً. سأل عنك. جلس ثم غادر قبل مجيئك بقليل، مودعاً لدينا هذا الكتاب.

سريعاً ما اتصلت بالأستاذ محمود كامل. في اليوم ذاته كنت في حضرة رئيس الوزراء في منزله. والشكر كله للصديقين اللذين اهتما بتهيئة الزيارة: الأستاذ محمود، والدكتور عدنان الشيخ إبراهيم، نسيب الأستاذ الحكيم والذي أصبح قبل بضع سنوات رئيساً للنادي العربي السوري في كندا.

كأنما شعر رجل الدولة اللمّاح بأنني سأسأله: كيف هكذا قمت بزيارتي دون موعد. أجاب دون أن أوجه إليه السؤال: قيل لي بأنك موظف ممتاز، والموظف الممتاز يأتي إلى عمله في الثامنة. قلت: أشاهدك وأنت تدخل القصر فأسلمك الكتاب – الهدية. فإذا سمح وقتك تحادثنا، وإلا فقد تعارفنا.

من حسن الحظ أن الإعلامي كامل كان قد هيأ نفسه للجلسة، فسجل على شريط كاسيت حواراً بين الحكيم وبيني حول ظروف تأليفه وزارته الأولى عام 1941. كانت أول وزارة يساهم بها سياسي من الساحل السوري هو المحامي منير العباس، النائب عن صافيتا عام 1937. ماذا جرى للكتاب – الهدية الذي يضم وثائق نادرة؟ طلبه مني فلان الفلاني لمدة /24/ ساعة. مانعت. قلت: أصوره ثم أعطيك الصورة. لم يقتنع. أكد وعده بإعادته بعد /24/ ساعة، إلا أنها لم تنقضِ حتى الآن. لم يبقَ من ذكرى تلك القصة الجميلة مع رئيس وزراء مدمن على الكتابة إلا الرسالة المنشورة آنفاً.

(5)

كم من رؤساء الوزارات السوريين كتبوا مذكراتهم أو نشروا كتباً؟ أستعين بالذاكرة. لديّ في ملفاتي – كما أرجح- مذكرات للدكتور محسن البرازي قبل ترؤسه الوزارة. أما الدكتور عزت النص فلديه كتب معروفة منشورة في القاهرة ودمشق. العلامة الدكتور معروف الدواليبي مؤلف مشهور وسياسي ذو مواقف ولديه مذكرات إلا أنها نشرت بعد وفاته. لم يشرف عليها بنفسه. أما الأستاذ صلاح الدين البيطار فقد تميز بكتابات سياسية جمعت في كتاب أو كتب. الدكتور عبد الرؤوف الكسم لديه، كأستاذ جامعي، أبحاث في حقل الهندسة المعمارية. وللدكتور محمد مصطفى ميرو كتاب عن أمين الريحاني نشر أيام كان محافظاً لحلب. الدكتور عادل سفر، رئيس الوزراء السابق، أستاذ جامعي له أبحاثه. من هذه الجردة المعتمدة على الذاكرة يتضح أن حسن الحكيم كان الوحيد من بين رؤساء الوزارات السوريين الذي اهتم بنشر مذكراته بصفته رئيساً للوزراء، وأنه فعل ذلك بنفسه. وتبقى نقطة لا أعرفها على وجه التدقيق: ما هو الصدى الذي أنتجته هذه المذكرات في سورية إن كانت نُشِرَت فيها؟ وتحية إلى ذكرى الرجل الكبير الذي اعتنى بأوراقه السياسية أكثر من عناية أي من أمثاله بمثيلاتها.
جورج جبور

7 حزيران 2012