الأحد، 17 يوليو 2016

قضية فلسطين والقمة العربية: موريتانيا، تموز 2016

                       قضية فلسطين والقمة العربية: موريتانيا، تموز 2016

مسارات متكاملة: من مئوية وعد بلفور، مرورا بخطة السلام العربية، الى مؤتمر للأمن والتعاون في الاوسط والمتوسط ؟
       

المحتويات:

اولا: في العنوان.

ثانيا: اهمية القمم العربية في معالجة قضية فلسطين.

ثالثا: تجديد رسالة مفتوحة الى القادة العرب في قمة العام الماضي.

رابعا: تداخلات مسائل الاوسط والمتوسط، وفشل حل كل مسألة بمفردها.

خامسا: من موقع العنفوان الفكري والمؤشرات السياسية: فلتتجه القمة العربية واعية نحو مؤتمر للأمن والتعاون في الاوسط والمتوسط
 

اولا: في العنوان:

 كلمات العنوان واضحة تلخص البحث كله. بسبب قضية فلسطين كانت القمة العربية الاولى في انشاص عام 1946. وكان للقمم العربية دورها في الحفاظ على قضية فلسطين حاضرة دوليا، رغم الاختلاف المشروع في تقييم حصيلة ما انتهى اليه هذا الدور. وفي الوقت الراهن، ضمن ما تشهده بعض الدول العربية، وما تشهده العلاقات العربية – العربية، يراهن البعض على موت سريري يعاني منه الثنائي: فلسطين ومعها جامعة العرب، والقمة العربية الدورية اجلى واعلى رموزها. وما تأخر عقد القمة عن موعدها الدوري الا افصاحا عن غياب حيوية القمة. بالمقابل، يطلق عقد القمة، رغم تأخرها، اشارة واضحة تقول ان الثنائي ما يزال على قيد الحياة. وأتوقع، وأرجو ألا اكون مخطئا، ان يكون لفلسطين حضورها الباذخ في القمة القادمة، وربما بأكثر ما كان لها من حضور في القمم القليلة السابقة.

أما المسارات المتكاملة من الماضي الى المستقبل فيكمن سرها في اشارة الاستفهام التي بها يختتم العنوان. هي اشارة استفهام كبيرة بحجم الماضي والحاضر والمستقبل جميعا. بل هي ليست اشارة استفهام. انها دعوة الى الانخراط في عصف فكري مكانه بيروت، عاصمة العصف الفكري العربي. ولن يكون للعصف الا أثر التمكين في الارض، لأننا في عهدة مؤسسة هي حارسة دولة طهرت ارضها من الاحتلال.

ثم لا بأس من تنبيه مسبق يبطل بعض الانتقاد. تضم هذه الصفحات خبرات شخصية وتفاصيل كان أحرى بها ان توضع كهوامش، او حتى ان يستغنى عنها. فعلت ما فعلت جريا على عادة من تقدم بهم العمر، فمعذرة.
 

ثانيا: اهمية القمم العربية في قضية فلسطين:

لا تتطلب هذه الجزئية من البحث جهدا خاصا فجوهرها متفق عليه. قضية فلسطين انتجت القمم العربية المتتالية بدءا من انشاص. بل لعل من الممكن القول بان فكرة قيام جامعة الدول العربية انما انتجتها السياسة البريطانية من واقع معالجتها مسألة الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936. تجلت جامعة الدول العربية، قبل ولادتها بعقد، في رسالة الملوك العرب الى ابنائهم عرب فلسطين لوقف المقاومة ولإيلاء بريطانيا الثقة. ثم ان بروتوكول الاسكندرية تضمن ملحقا خاصا بفلسطين. وشغلت الجامعة بفلسطين منذ ايامها الاولى. واتى عقد قمة انشاص، بتحريك سوري قام به الرئيس شكري القوتلي، وبدعوة من الملك فاروق، اواخر ايار 1946، تتويجا للارتباط الوثيق بين" العمل العربي المشترك " --- حسب التعبير الفني السائد  --- وبين قضية فلسطين. ثم اننا نعلم ان الفلسطينيين جميعا كانوا، وما يزالون في معظمهم، من دعاة زيادة جرعة العمل العربي المشترك في معالجة القضية. حتى حين أصر الفلسطينيون على استقلالية القرار الفلسطيني، فانهم صرحوا بهذه الاستقلالية بمواجهة دولة او دول عربية بعينها، ولم يصرحوا بها لكي يخرجوا من العباءة العربية.

ولم تنشغل جامعة الدول العربية بمسألة قدر انشغالها بقضية فلسطين. كل مشاريع التكامل العربي وغير تلك المشاريع من اعمال الجامعة، قد لا توازي، في حجم عدد صفحاتها نصف عدد الصفحات التي تشغلها قضية فلسطين. وما سبق تخمين شخصي في كل حال لا الزم به حتى نفسي.

كيف نقيم هذا الارتباط الوثيق بين الجامعة وقضية العرب الاولى؟ البعض يقول انها سياسة بريطانية عميقة هدفها انتزاع ارض فلسطين من اصحابها وتسليمها الى الصهاينة بأسلوب اخراج دولي، الانتداب عماده الاساس، والجامعة احدى الوسائل المساعدة.

تلك نظرة اصحاب ذهنية المؤامرة، ولاسيما منهم من يرى في بريطانيا صائغة كبرى اولى لسياسة العالم. ولا تخلو هذه النظرة من صحة.

الا ان الاصح هو القول بان فلسطين جزء من الوطن العربي وان على الجامعة ايلاء عنايتها الاولى الى ذلك الجزء من الوطن الاكثر من غيره تعرضا للمخاطر. وليس من الخطأ القول انه، رغم ما تتعرض له الجامعة من انتقادات، فان من دواعي ارتياح الفلسطينيين، بشكل عام، ان تجمع الدول العربية على خطة لمعالجة قضيتهم. وفي التاريخ الدبلوماسي لقضية فلسطين ان الجامعة شغلت منذ اوائل العقد التاسع من القرن الماضي، وبالتحديد من عام 1981، بوضع خطة تعرف اليوم بخطة السلام العربية التي اقرتها قمة بيروت عام 2002.

لماذا 1981؟ في 1979 وقعت مصر واسرائيل معادة السلام. قبيل توقيع المعاهدة بقليل قامت ثورة ايران الاسلامية. طرأ تغير على عنوان المسألة الاولى في سياسة المنطقة. لم تعد مسألة الصراع العربي- الصهيوني هي المجمع على انها اولى. في العام التالي بدأت حرب بين العراق وايران، وأخذت المسألة الاولى في سياسة المنطقة تتخذ عنوانا آخر. بدأت النقلة من الصراع العربي – الصهيوني الى الصراع السني – الشيعي. ومن اجل الانخراط الجاد في الصراع الجديد كان من المنطقي التفكير في اغلاق ملف الصراع القديم. قمة تونس عام 1979، الاولى بعد اخراج مصر من الجامعة، جاءت عادية " ناجحة". الا ان القمة التالية في عمان، 1980، أزاحت قضية فلسطين من رأس جدول الاعمال. قيل في تبرير الازاحة: سوف تكرس قمة عمان للتخطيط الاقتصادي العربي المشترك، اذ لن نستطيع ايقاف التوسعية الاسرائيلية دون اقتصاد موحد متين. ولعل اول استشعار عن بعد لما سيكون عليه الحال ظهر في مقال نشرته مجلة المستقبل الاسبوعية اللبنانية المحتجبة في عددها المؤرخ 1/ 11/ 1980 وعنوانه:" لو كنت مكان الشاذلي القليبي وأمامي مؤتمر قمة عربي". استبق قارئ ما خطه القدر، وأعلن قبل اوان الاعلان ان دولة عربية هامة لن تحضر القمة. ثم اتت قمتا فاس.

فشلت فاس الاولى عام 1981 اذ غاب عنها المعني الاول بها وهو الرئيس السوري. كان لا بد من ضربة فأس ذات بأس من اجل فاس ثانية. قد يكون ان اجتياح اسرائيل في حزيران 1982 انما اتى ضمن تخطيط من اجل انجاح خطة السلام العربية في فاس الثانية. وحصل. اقرت القمة الاقتراح السعودي، وأسمته خطة السلام العربية. جاءت الخطة في حلة مزدانة بتعديل سوري ثمنا للموافقة. الا ان الخطة ككل لم تكتب لها حياة نشطة.

بعد عشرين عاما من فاس الثانية اعيد بعث خطة السلام العربية في قمة بيروت عام 2002. كان للرئيس اميل لحود، بشجاعة قيادية مثيرة للإعجاب، اثر هام على النص. أدخل عليه تعديلات هامة.

كيف اعيد بعث الخطة؟ وضمن اية ظروف؟ كيف تولد الافكار السياسية ؟ لعل من المفيد ان اضع امامكم ما اعلمه، وليس هو بالضرورة القول القاطع.

جاء البعث السعودي لها في خضم التساؤلات عن دور التطرف الاسلامي في احداث 11/ 9/ 2001 الجرمية. زجت الاحداث الجرمية العرب في خضم صراع الحضارات. ومن ضمن مغالبة الخضم اهتمت جامعة الدول العربية، ومن المرجح لاول مرة في تاريخها، بالمفكرين. العرب. دعا هم عمرو موسى الى مؤتمر عقد في القاهرة، ومولته الكويت كما أرجح، لأن اعتراض " حداثي" كويتي نافذ على ذكر حلف الفضول حال دون ذكر ذلك الحلف المبارك نبويا في بيان المؤتمر الختامي. سمعت رواية اعتراض " الحداثي" من السيد عمرو موسى، الحي اليرزق. لنعد الى بعث خطة السلام العربية. عن ظروف بعثها حدثنا توماس فريدمان، الصحفي الامريكي الشهير، عن لقاء له مع الملك عبد الله، رحمه الله، توافق فيه الصحفي والملك على فائدة بعث الخطة. حرصت رواية فريدمان على التأكيد ان ايا من الشخصين لم يكن تلميذا للآخر في توليد الفكرة. كل منهما وصل اليها مستقلا. الا ان لي روايتي المجهولة عن الولادة، ويهمني وضعها في التداول، وهذه هي:

بدعوة من الوزير الدكتور خالد العنقري، وزير التعليم العالي السعودي، ألقيت، بحضور عدد وافر من الامراء وغبرهم، بحثا عنوانه:" مشروع الملك فهد بشأن السلم العادل في المنطقة". كان ذلك ضمن اطار " المؤتمر العالمي عن خادم الحرمين الشريفين وانجازاته " (الرياض، 11-14 / 11/ 2001). . تالف البحث من عدة أجزاء حمل ا آخرها العنوان التالي:" هل يمكن احياء المشروع في ظروف ما بعد 11/9/ 2001؟ ". اختتم ذلك الجزء من البحث، ومعه البحث، بالفقرة التالية:

إذا كرر القادة العرب الاعلان بالالتزام بذلك المشروع، اكتسى حياة جديدة يوجب على امريكا -- ومعها بقية الاطراف المهتمة – أخذه بجدية. فكرة الاحياء ليست هدية تقدم الى خادم الحرمين الشريفين بمناسبة الذكرى العشرين لتوليه الحكم. انها فكرة سياسية – عملية من الدرجة الاولى. ان أخذتها امريكا بجدية فذلك هو الهدف الاساس. وان لم تأخذها بجدية فان وحدة الصف العربي انما تؤدي الى شد أزر الانتفاضة الفلسطينية التي استطاعت شقيقتها اللبنانية فرض تنفيذ قرارات لمجلس الامن عجز مجلس الامن عن تنفيذها".

 في المتداول المعروف عن جلسة فريدمان مع الملك عبد الله ان المك قال للصحفي:" هل نظرت في درج مكتبي؟ فيه ورقة تقول ما انت تقترحه علي." من الجائز الظن ان ما احتوى عليه درج الملك كان نص بحثي الذي كان قد القي قبل ايام. وللعلم، فان السيد لسلي ماك لوخلن، الاعلامي البريطاني الشهير. قابلني بعد القاء البحث وأجرى معي حديثا عنه للبي بي سي. وطيلة مدة المؤتمر كان لا ينفك يتحدث عن اهمية ما قلت.

بعد اقل من اسبوع تعقد القمة العربية في نواكشوط، عاصمة موريتانيا. من المتداول ان قضية فلسطين ستكون في الطليعة بندا اول او في موقع متقدم. سوف تتمثل القضية بخطة السلام العربية، كما تقول وسائل الاعلام. أرى ان تضع القمة على جدول اعمالها بندا فلسطينيا آخر، بل أول، هو أصل القضية. انه وعد بلفور. مناسبة وضعه اقتراب مئويته. لم يكن الوعد -- التصريح--- امرا عابرا في تاريخ الفكر العالمي. وليس الاهتمام بالمناسبات التاريخية الكبرى جديدا على الجامعة. ذات يوم بحثت الجامعة في موضوع خمسمائة عام على اكتشاف امريكا وخصصت مبلغا من المال اهتماما منها بالمناسبة. أقتبس بعد قليل ما قلته عن وعد بلفور هنا في بيروت، مقدما لندوة ادرتها بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الانسان في 10/ 12/ 2015:

في خريف عام 1917 ناقش مجلس الوزراء البريطاني باستفاضة مسألة ما أصبح وعد بلفور. رأى المجلس وصف اتباع ديانة معينة بأنهم شعب. لكن اتباع ديانة واحدة يتوزعون في عدة دول ليسوا شعبا. لكل منهم جنسية دولة لها ولاؤهم. لا يمكن اعطاء صفة شعب لأتباع ديانة ينتشر المؤمنون بها في كافة اصقاع العالم. اتى وعد بلفور، رغم انتقاد مونتاغيو ومذكراته الثلاث، فانتهك صلح وستفاليا وما تلاه من تأسيس دولة تعددية المواطنة. قامت دولة يهودية. وكان من ننائجها، في تفاعلها عبر الزمن، مع ظروف معقدة في نفوس الناس وفي سياسات الدول، قيام ما يعرف اليوم بالدولة الاسلامية".

ثالثا: تجديد توجيه رسالة مفتوحة ذهبت الى القادة العرب في قمة شرم الشيخ:

 في 19 /3/ 2015 نشرت جريدة البناء اللبنانية رسالة مفتوحة وجهتها الى القادة العرب في قمتهم بشرم الشيخ بمصر وجهت الرسالة نفسها الى القمة بعناية بعض اجهزة الجامعة في دمشق، ولا أملك تأكيد وصولها. قلت في الرسالة ان مئوية الوعد مناسبة سوف ينشغل بها العالم. هي تخصنا أكثر مما تخص غيرنا. فلننشغل بها منذ الآن. ليس في علمي انه جرى النطق بكلمتي " وعد بلفور " في قمة العام الماضي. لا أدري اذا كان اي من القادة العرب يزمع النطق بتينك الكلمتين هذا العام. في كل حال، اعيد توجيه الرسالة - المذكرة هذا العام وبنصها دون اي تعديل. وهذه هي:
 

رسالة مفتوحة إلى القادة العرب في قمة شرم الشيخ، مصر، آ ذار 2015

أضع على جدول أعمالكم بنداً عنوانه:

" الاهتمام بمئوية وعد بلفور"
 
السادة أعضاء القمة العربية:

أحييكم، بالاحترام المناسب، من سورية الجريحة المتعافية، وأضع على جدول أعمالكم، بقدر ما أملك من قدرة إقناع، بنداً يفرضه عليكم تاريخ جامعة الدول العربية، ولاسيما منه تاريخ مؤتمرات القمة بدءاً من أولها في أنشاص عام 1946.

عنوان البند: " الاهتمام بمئوية وعد بلفور".

 وانشغالي بمحاولة إقناع القمة وضع هذا البند على جدول أعمالها قديم يعود الى عام 2007. وقد يكون معروفاً لديكم، او لدى بعضكم، أو لدى الأمين العام الحالي للجامعة، لأن الأمين العام السابق للجامعة، السيد عمرو موسى، قدم للطبعة الثانية من كتابي: وعد بلفور (دمشق، الطبعة الثانية، تشرين الأول أوكتوبر 2007)، ولأنه، تنفيذاً للتقديم وتجاوباً مع روح الكتاب، بدأ منذ ذلك التاريخ تقليداً جديداً في عمل الجامعة، هو إصدارها بياناً سنوياً عن الوعد في الثاني من الشهر الحادي عشر من كل عام.

لم يعد يفصلنا عن مئوية وعد بلفور إلا أقل من سنوات ثلاث. والمناسبة تاريخية ثقافية إعلامية سياسية بامتياز. سوف ينشغل بها العالم. هي تخصنا قبل غيرنا، فما أحرانا أن ننشغل بها ونهيء لها منذ الآن.

لن أثقل عليكم بتعداد الكثير مما يمكن القيام به في مجال تبيان الظلم الذي أوقع بالشعب الفلسطيني نتيجة ذلك الوعد. أكتفي هنا بذكر نقاط خمس، يحسن أن تكون في جوهر الاهتمام بالمئوية، ثلاث منها تخص التاريخ، واثنتان منها للعمل منذ هذه اللحظة.

أولاً: إسرائيل: أليست روديسيا آسيوية؟ يتولد هذا الانطباع من رسالة خطها هرتزل في عام 1902 إلى رودس، منشئ روديسيا البائدة وهي في نصف منها دولة زيمبابوي. يقول هرتزل في رسالته: لو كانت آسيا الصغرى في نطاق اهتمامك يا رودس، لكنت نفذت المشروع الصهيوني الذي أدعوك إلى تبنيه على نحو ما نفذت به مشروعك في إفريقيا. عند هرتزل: المشروعان شقيقان بل توأمان. لو اهتم رودس بآسيا الصغرى ونفذ، لكان من الممكن لإسم فلسطين أن يصبح روديسيا لا إسرائيل.

ثانيا: الرئيس ويلسون والد مشارك في الوعد. هو أيضاً صاحب مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو أيضاً الناقم على الاتفاقات السرية ومنها اتفاقية سايكس—بيكو الممهدة لوعد بلفور، وهو موفد بعثة كينغ- كرين إلى بلاد الشام لاستطلاع رأي السكان في أمر مستقبلهم. لا يمكن التوفيق بين إجازة ويلسون مسودة الوعد وبين ثوابت سياسته المعلنة. إشهار هذا التناقض مفيد في ترسيخ إدراك أعمق لمحركات السياسة الأمريكية، ولاسيما في المنطقة العربية. ولنلاحظ أن الثقافة العربية العامة ما تزال تعبر عن الإعجاب بويلسون في تبنيه مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو موقف صائب، لكنها تهمل عادة ما هو موقف صائب أيضاً، ومؤداه أنه كان هو نفسه أساسياً في حرمان الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير مصيره بنفسه. لم يصدر وعد بلفور إلا بعد إجازة ويلسون له. لا نجانب الحق إن قلنا أن الرئيس الأمريكي والد مشارك في وعد بلفور.

ثالثا: تصريح بلفور العنصري عام 1919 عن سمو الصهيونية الذي يبرر لها ممارسة العنصرية القاتلة على الفلسطينيين. أتى هذا التصريح بعد إصدار الوعد بعامين، ومؤداه أن الصهيونية مهما كانت، مصيبة أو مخطئة، إنما هي قيمة سامية من قيم الحضارة الغربية، وينبغي الأخذ بها دون الالتفات إلى رغبات سبعمائة ألف من سكان فلسطين. كان لهذا التصريح دوره في إقناع عصبة الأمم بالموافقة على ما أصبح صك الانتداب على فلسطين في عام 1922.

تلكم نقاط ثلاث تاريخية ثقافية إعلامية سياسية يحسن أن يكون إشهارنا العالمي لها في جوهر عملنا المبرمج إذ نستعد لمئوية الوعد. ولا ريب أن هذا الإشهار مفيد معنوياً في تغذية وعي دولي يؤدي بالنتيجة إلى إبلاغ الفلسطينيين بعض حقوقهم. ولنتذكر: بحسب القانون الدولي كان الاسترقاق شرعياً وكذلك كان الاستعمار. بطلا. تبدلت الأزمان وتبدلت معها الأحكام.

تلكم نقاط ثلاث هي غيض من فيض وآتي إلى نقطتي العمل المستحسن القيام به من هذه اللحظة.

النقطة الاولى: يجب تشجيع فكرة المطالبة بالاعتذار عن الوعد. هي فكرة جليلة ينهض بشرف القيام بها حشد من المتطوعين على امتداد العالم. أحييهم.

 النقطة الثانية: يحسن حث الهيئات الثقافية العربية، وفي طليعتها اتحاد الجامعات العربية، لتنفيذ اقتراح وافقت عليه، عام 1989، الدول العربية والأفريقية، من خلال التعاون بين منظمتيهما، بإنشاء مؤسسة لدراسات الاستعمار الاستيطاني المقارن في العالم. كانت لي عن عملية التنفيذ رسالة في 15 كانون الثاني يناير 2007 إلى أمين عام الجامعة، وكان جواب عنها في 8 آذار مارس 2007. ولا ريب أن الرسالة وجوابها محفوظان في ملفات الجامعة. قدمت الاقتراح إليكم عبر الحكومة السورية، عام 1971. والتفاصيل الدقيقة يتضمنها كتابي:" نحو علم عربي للسياسة" (دمشق، الطبعة الثالثة، 2010).

السادة أعضاء القمة العربية:

كلمة ختام بسيطة: عنوان البند الذي أضعه على جدول أعمالكم: " الاهتمام بمئوية وعد بلفور". بل أنتم تضعونه. بل يضعه على جدول أعمالكم ضمير الإنسانية فيكم، وتضعه أيضاً المادة الأولى في العهدين الملزمين من شرعة حقوق الانسان.

بكل احترام                                                                                                                        

.

رابعا: تداخلات مسائل الاوسط والمتوسط، وتعذر حل كل مسألة منها بمفردها:

المثال الاوضح لهذا التداخل هو الوضع الحالي في سورية. لا يمكن العودة بسورية الى الامن والاستقرار اذا لم يكن ثمة حل يرضي اطرافا عديدة حول مسألة امدادات النفط والغاز من المصادر الى المستهلكين. كذلك فمن الواضح لكثيرين ان الموقف السوري من النزعات التوسعية الاسرائيلية كان له دوره في ايصال السوريين الى ما وصلوا اليه. أما المسائل التي يثيرها طموح بعض مواطني سورية من الاكراد الى اقامة نوع من التشكل الفدرالي فكثيرة لا يمكن الا ان تكون على صلة مباشرة مع مسائل مماثلة في دولتين من دول الجوار السوري.

الدرس المستخلص من الوضع السوري هو ان توافق القوتين الاعظم لا يأتي بنتيجة كاملة ان لم يدعمه توافق بين الدول والقوى الاقليمية. صحيح ان ثمة من المجاهيل في التوافق الروسي- الامريكي ما لا يمكننا من الوصول الى الجزم، الا ان استمرار الوضع السيئ على الارض، ومعه استمرار المحادثات شبه اليومية بين وزيري الخارجية الروسي والامريكي، يوحي بان القوتين الاعظم، في أحسن الاحوال، لا تستطيعان. وفي أسوأها، لا تنويان.

ويمكن القول انه، الى جانب الوضع السوري، ثمة مسائل عديدة في منطقة الاوسط والمتوسط يتعذر حل كل واحدة منها بمفردها. اليمن مثال صارخ. كذلك ليبيا. ولا حصر للمسائل الاخرى.

اما المسألة الام، قضية فلسطين، فهي متداخلة في كثير من المسائل الاخرى. ولعل من الامور الدالة على اهمية القضية الفلسطينية في الوجدان العام، عربيا واسلاميا، ان قطبي الصراع السني – الشيعي، وأقصد السعودية وايران، يتنافسان في اشهار الارتباط المبدئي بمناهضة التوسعية الاسرائيلية، بل وبمناهضة اصل هذه التوسعية، اي الايديولوجية الصهيونية.

ومهما كان موقفنا من خطة السلام العربية، الا ان في الخطة موقفا اساسيا لا ينبغي تجاهله، مؤداه ان لا تطبيع كاملا دون انسحاب كامل، اي دون تغيير حقيقي في التفكير السياسي الصهيوني.

تشكو مسائل الاوسط والمتوسط من ان المصالحات التي تعقد لحل اية واحدة منها تبدو تافهة ازاء الخطر العام الجاثم المهدد. تتصالح، مثلا، تركيا واسرائيل. تعود بينهما العلاقات الى طبيعتها بعد حادثة مرمرة، الا ان هذه المصالحة لا تنقذ اسرائيل من تطورها الطبيعي المتجه الى مزيد من الابارتايدية. اما بالنسبة الى تركيا فان مشكلتها الكبرى لم تكن في تخطي عواقب حادثة مرمرة. الخطر المقيم في تركيا يكمن في داخلها.

وكذلك نبه الرئيس اوباما الخليجيين الى خطر في داخل مجتمعاتهم، محذرا اياهم من القاء عبء مشاكلهم على توجه ايران الشيعي.

مسائل الاوسط والمتوسط ليست فقط علاقات بين دول. انها ايضا علاقات بين مجتمعات وتوجهات. وهي ايضا علاقات ضمن دول ومجتمعات وتوجهات.

ولن نستطيع وضع قائمة كاملة بها، الا ان محاولة وضع قائمة امر مستحب.

وتعود بي الذاكرة الى مؤتمر الامن والتعاون في اوروبا خلال السبعينات. كم كان كبيرا الجهد الذي بذل حتى استقر الامر على جدول اعمال.

ويطول حديث التحضير للمؤتمر، وقد أعددت بعض ما يجب اعداده. ولنلاحظ ان الدخول في التفاصيل قبل انضاج الفكرة مفيد، الا انه قد يكون معوقا. اما ما هو مفيد ومنتج حقا في هذه اللحظة، فقيام القمة العربية بخطوة اولى تتمثل في تأييد المقترح الفرنسي  -- الاوروبي  المتداول بشأن فلسطين، مع ملاحظة تعميق التأييد لينفتح المقترح على أفاق أرحب. وبالطبع، لا بد لمثل المؤتمر الذي ارى اننا نسير باتجاهه، الا ان يتمتع بقدرة التحريك الفاعلة حقا، اي القدرة الروسية – الامريكية. وعلينا، في كل حال، ان نتذكر دائما ارتباط المسألة –الأصل، اي قضية فلسطين، بالمسألة الشاغلة اليوم، وهي الارهاب. اهدار العدالة في مسألة فلسطين كان له أثره الكبير في الوصول الى الهاوية التي يجد العالم نفسه فيها الآن.

 

 خامسا:من موقع العنفوان الفكري والمؤشرات السياسية: فلنتجه واعين نحو مؤتمر للامن والتعاون في الاوسط والمتوسط:                   

كثيرا ما يقف الفكر على عتبة السياسة، تحركه فيقسر. الا ان للفكر عنفوانه. هو بنفسه سلطة تحرك السياسة وقد تغير مساراتها. وللظروف دورها، وكل حالة من اشتباك الفكر بالسياسة تبقى حادثة فردية قد تستعصي على التعميم.

يلتقط الفكر حادثة قد تمر عابرة. يبني عليها. تتولد عمارة يمكن ان تفرض نفسها على ما يحيط بها. كما يمكن للعمارة ان تتهاوى لأنها انما قامت على حادثة كان لا ينبغي الا ان تحسب عابرة. يمكن للحادثة ان تضلل الفكر.

قرأت في احداث متتالية منذ بعض الوقت مؤشرات تفصح عن اتجاه الى عمل دولي ثمة شبه توافق على آلياته. هدف العمل، كما ينبغي ان يكون الهدف، خلق اجواء امن وتعاون في بلاد الشرق الاوسط والمتوسط. قرأت ذلك في التوافق الغامض بين روسيا وامريكا في الشأن السوري. قرأته في زيارات نتنياهو المتكررة الى موسكو. قرأته في محاولة تركيا مغازلة موسكو. قرأته في قبول متزايد لتوسيع مكان لايران في شؤون المنطقة. قرأته في محاولات اوروبية غربية لكبح جماح التوسعية الاسرائيلية. قرأته، قبل كل شئ وفي صلب كل شئ، في التوجهات المعلنة لمحاربة الارهاب، رغم عدم الاتفاق على تعريف الارهاب.

كان كل ذلك قبل انفجار قنبلة خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي في يوم الكتابة هذا، الجمعة، 14 حزيران 2016.أتى الخروج لينال من قوة ما قرأت. فليكن. أتابع. وأعلم ان علينا توقع مفاجأة، مجهولة الابعاد، تأتينا بها انتخابات الرئاسة الامريكية. وأعلم ان كل حدث كبير في المنطقة او في ا لعالم يمكن اخضاعه لتفسيرين متناقضين او اكثر. تفسير يحشد للتوجه الى عمل متوافق عليه، وتفسير مناقض.

الناظم الاساس لفكرة ذات عنفوان، بدأت تنمو في الوجدان منذ زمن، الا انني لم أفصح عنها علنا الا منذ نشر وسائل الاعلام نبأ مذكرة الدبلوماسيين الامريكيين المطالبة بمزيد من الانخراط الحربي الامريكي في سورية، الناظم الاساس للفكرة هو ان انعقاد اجماع اقليمي ودولي على فائدة النظر الى المستقبل على حساب الاقامة في اسر الماضي امر يسير اليه ببطء كل الفاعلين في الاوسط والمتوسط. والترجمة العملية لهذا الناظم الاساس تتمثل في الاتجاه الواعي نحو عقد مؤتمر للامن والتعاون تشارك فيه كل الدول والقوى الفاعلة في بلدان الاوسط والمتوسط.

الصعوبات لا حصر لها. الا ان انغلاق الافق امام اي اسلوب آخر كفيل بتذليل الصعوبات. فلنتجه واعين الى مؤتمر للأمن والتعاون..

ولأختم بما نحن فيه اليوم، وتحت عنوان هذا البحث: "قضية فلسطين والقمة العربية." ما العمل؟

تطلب القمة من احد اجهزة الامم المتحدة، والارجح: من الجمعية العامة، القيام باجراء محدد، في يوم مئوية وعد بلفور. قوام الاجراء عقد جلسات استعادية تنتج تقييما عاما لمفاعيل الوعد الذي حمله التنظيم الدولي منذ انشئ في اعقاب الحرب العالمية الاولى. مثل هذا التقييم، يصب، لا ريب في مصلحة اظهار ما تعرض له الشعب الفلسطيني من ظلم. يؤيد المنطق السليم هذا الطلب العربي. في التوقع الغالب ان الطلب سوف يحظى بالموافقة. قد تتغلب على المنطق السليم ضغوط ظالمة تحد من فائدة عملية التقييم المرتجاة. الا ان الحديث في هذا الامر سابق لأوانه. لنعد الى القمة.

بالتوازي مع المطالبة بالاهتمام العالمي بالمئوية، تشهر القمة العربية خطة السلام العربية. اهم ما فيها انسحاب كامل كما تنص على ذلك القرارات الدولية. لا يقبل القانون الدولي الاستيلاء على اراضي الغير بالقوة، كما في ديباجة القرار 242. ولا علاقات عادية دون الانسحاب الكامل.

العودة الى التاريخ تمهد السبيل الى ضغط دولي اكبر على اسرائيل يقنعها بقبول خطة السلام العربية انطلاقا من ضرورة البدء بتطبيق اول بنودها وهو الانسحاب. وكما مهدت الرواية الصهيونية لتاريخ فلسطين، وكما مهدت الرواية الصهيونية لوقائع الشواء (الهولوكوست)، كما مهدت هاتان الروايتان الطريق امام قيام اسرائيل، كذلك يعيننا امعان النظر الى وعد بلفور في مهمة السعي الى ابلاغ الشعب الفلسطيني حقوقه. واذ تتداخل قضية فلسطين، ومحيطها هو الصراع العربي - الاسرائيلي، اذ تتداخل مع المسائل الاخرى الكثيرة العالقة في الاوسط والمتوسط، فمن المحتمل ان يتولد اقتناع بان الاطار المناسب للحل هو عقد مؤتمر للأمن والتعاون .المسارات متكاملة، وبإمكان القمة العربية ان تعطي اشارة الانطلاق.

 قد يقول قائل: ان مخاطبة القمة العربية في الشؤون الكبرى انما هو قمة السذاجة الفكرية. بل وقد سمعت شخصيا من امين عام مساعد للجامعة ان امريكا، ومنذ سنوات طوال، ترسل الى الدول العربية رأيها في كيف ينبغي ان يكون التعامل مع كل بند يتضمنه جدول اعمال القمم العربية. لكل ما يرى ويقول. اما انا فلا اود ان افقد الثقة بالجامعة وبالقادة العرب، رغم عدم اتفاقي مع الكثير مما تم ويتم.

وكما قلت في بحثي في الرياض اواخر عام 2001: اذا لم ينجح الاجماع العربي المنعقد على ما هو حق بالقانون الدولي، اذا لم ينجح في اجبار اسرائيل على التعامل بجدية مع الخطة العربية، فسيكون لهذا الاجماع اثره في بلورة جديدة للقدرات العربية، بلورة قوامها التعاضد المتبادل بين الدول العربية وقوى المقاومة الشرعية للاحتلال.

وليس في كل ما سبق ما لا يؤيد الناظم الاساس لهذا البحث: علينا الاتجاه واعين الى مؤتمر للأمن والتعاون، واول الاتجاه بلورة وثيقة سياسية له، يصح اعتبار هذا البحث تمهيدا لها.


     دمشق، يوما الجمعة والسبت، 24 و25 حزيران 2016