الاثنين، 22 مايو 2017

الدكتور نشأت حمارنة رمز مشرق لوحدة المجتمع العربي

له في كل عاصمة عربية، بل في كل مدينة وبلدة عربية، أصدقاء وزملاء ومتابعون وحكايات مفيدة وطريفة. كان "مختار العرب" غير منازع. هو رمز مشرق لوحدة المجتمع العربي. مركز دراسات وحدوية قائم بذاته. يعنيه كل ما في المجتمع الممتد من الخليج الثائر الى المحيط الهادر. وقبل ان تكون لدينا وسائل تواصل اجتماعي، كانت له وسائله التي من خلالها تصله أخبار العرب في شتيت أقطارهم. مارس مواطنة عربية منطلقة من دمشق، لكنها ذات ركائز في كل عاصمة عربية. ذلك، باختصار، شخص لا يختصر. انه الدكتور نشأت حمارنة، استاذ طب العيون في جامعة دمشق، صاحب مجلة " الكحال" المتخصصة بتاريخ طب العيون لدى العرب، البعثي منذ نعومة أظافره، عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي لعقود طوال.

قبل ايام انتقل الى رحمة الله ذلك الذي لا يهدأ. أكاد لا اصدق انه حرم من القدرة على الحركة. عرفته قبل نحو من عقود ستة، فما رأيته في أية لحظة منها مستكينا راضيا منفعلا بالأحداث راضخا لها. له أساليبه في استنبات التفاؤل، واولها الانخراط في العمل المفيد. له أساليبه في الاحتفاظ بأصدقائه وفي مضاعفة عديدهم، واولها الاهتمام الانساني بهم، واضفاء الفرح على علاقته معهم.

عرفته من خلال الزمالة الطلابية في جامعة دمشق خلال النصف الثاني من الخمسينات. لم تجمعنا كلية واحدة. لم أكن معه في كلية الطب الا أنه كان معنا في كليات الجامعة كافة. كان معنا بنشاطه الطلابي الجامع بين الطب والحزبية والثقافة والفن والنشاط الاجتماعي الوطني والعربي العام. بل لم يكن غريبا عن أي نشاط جامعي مهما كانت طبيعته ولون القائمين به. ولعله يسر، وهو في كنف الرفيق الأعلى، اذ أستعيد ظروف لقب أطلقته عليه، فسر به، ذات يوم أوائل عام 1960.كان علي --- بصفتي مقرر اللجان الثقافية في اتحاد طلاب جامعة دمشق --- كان علي ضمن لجنة من الاصدقاء، اختيار المرشحين لعضوية الوفد الطلابي الى اسبوع شباب الجامعات الذي يعقد في القاهرة. أتى اسم نشأت حمارنة. لأية لجنة يصلح نشأت؟ تبارى المجتمعون في ترشيحه لإحدى اللجان الست التي ستمارس نشاطها في الاسبوع المشتهى. قلت آنذاك وبحضوره انه "مسدس المواهب"، يصلح لكل واحدة من اللجان الست. وبأسلوبه المتميز علق على اللقب الجديد بأنه يذكره بتعبير " المثلث الرحمات" المتداول في تأبين رجال الكهنوت المسيحي.

لم تنقطع صلتي بالصديق نشأت في مجلات نشاط متنوعة. الا انه أطل على عالما من خلال كتاب عن فضل العرب في طب العيون نشرته، ربما قبل عامين، الهيئة العامة السورية للكتاب. هالني ما في صفحات كتابه الأولى من شكر لزملاء بالعشرات وربما يالمئات، احب تسجيل فضلهم عليه. هكذا هو العالم.

التقيت به قبل عام او أكثر في الدورة السنوية للمؤتمر القومي العربي ببيروت. كان، كعادته، كتلة حماسة وتحفز. همه كل العرب ولا هوادة. هكذا هو البعثي.

ولا تنتهي الحكايات مع نشأت وعنه، وكلها مفيد وطريف. فليكن ذكره مؤبدا من الآن والى دهر الداهرين. وكل نفس ذائقة الموت، وانا لله وانا اليه راجعون.

دمشق في 21 /5/ 2017.

الجمعة، 12 مايو 2017

أوراق






حدود جديدة ترسمها الحروب في المشرق العربي؟ إمكان مستبعد!

أولاً: مقدمة: سؤال البحث، وحدوده، وخطته.
ثانيا: حدود الدول في المشرق العربي: نظرة اجمالية.
ثالثا: من منتجات الحروب في المشرق العربي.
رابعا: لماذا استبعاد امكان رسم حدود جديدة؟
خامسا: خاتمة: من مئوية وعد بلفور الى مؤتمر للأمن والتعاون في المشرق؟ في الأوسط؟ في الأوسط والمتوسط؟

أولا: مقدمة: سؤال البحث وحدوده وخطته:   
سؤال البحث مطروح يوميا ومن قبل كثيرين. هل ستؤدي الحروب في المشرق الى رسم حدود جديدة؟ في المشرق حروب، واضحة في جوانب منها، غامضة في أخرى. أطرافها لا حصر لهم. يكفي ان نتذكر ان في سورية قوات مسلحة نظامية معترف بها للدولتين الاعظم، ولدولتين اقليميتين، ولعدد كبير من دول التحالف الدولي لمحاربة الارهاب الذي تقوده امريكا، بالإضافة الى جماعات مسلحة لها صلات متنوعة بعشرات الدول. وفي سورية ايضا جنود احتلال اسرائيليون تفصل بينهم وبين الجنود السوريين قوات دولية. ويعلمنا التاريخ ان الخطوط التي تتوقف عندها الجيوش هي والدة الحدود المتعارف عليها والمعترف بها للدول.

ترسم الحروب الحدود، الا اننا، قبل الاجابة عن السؤال الاساس، علينا رسم حدود البحث.
الحد الاوضح في العنوان هو المشرق العربي. انه العراق وبلاد الشام أو سوريا الكبرى، او، باختصار دارج لدى البعض هو سوراقيا. هل يمتد المشرق العربي ليشمل الخليج والجزيرة واليمن، اي مجمل آسيا العربية؟ ربما. إلا انني لن أعالج هنا الا ما يختص بدول سوراقيا.
ويكتنف الغموض الزمني تعبير الحروب. أطول حروب المشرق العربي المستمرة هي تلك المقاومة التي ابتدأها الفلسطينيون ضد المستوطنين منذ اواخر القرن التاسع عشر. ثم كانت لدينا في سوراقيا حروب عديدة حديثة الطابع كحربي العراق وحرب تشرين وحرب لبنان. وكانت لكل من هذه الحروب متضمنات حدودية. الا ان من المرجح، اننا حين نتحدث عن الحروب والحدود في المشرق العربي فإنما نقصد بالتعبير الاحداث السورية الاليمة منذ عام 2011. من المرجح ان صائغ العنوان تحاشى ان يشير صراحة الى أثر الحروب في سورية على الحدود السورية، وذلك موقف يحسب له. اذن، فالاهتمام بالشأن السوري خاصة حد من حدود البحث.
ما سبق حدان اوجبهما العنوان، ويبقى حدان تنبغي الاشارة اليهما منذ البداية.
الحد الاول يتعلق بمحدودية قدرة الباحث على تغطية جوانب الموضوع كافة، ولاسيما ان لدينا في كل يوم جديد مفاجئ.
أما الحد الثاني فيتمثل في موقع الباحث، وللموقع أثره على الموقف. موقعي في سورية، وموقفي، سواء من اثر الموقع أو مستقلا عنه، حرب على تقسيم سورية.
ضمن الحدود السابقة رسمت خطة البحث لأتناول بعد قليل، بنظرة اجمالية، قصة حدود الدول في المشرق العربي، ولأقدم بعد ذلك رؤية لمنتجات الحروب في المشرق، ولأتوصل بعد ذلك الى الجزء الأساس الهادف الى الدفاع عن وحدة التراب السوري. ولأننا في عام 2017، عام مئوية وعد بلفور، فقد عالجت في الخاتمة بيان الخارجية البريطانية المنتقد لوعد بلفور، والرافض طلب الاعتذار عنه، متابعا فكرة أطلقتها امام هذا المؤتمر العام الماضي بضرورة عقد مؤتمر للأمن والتعاون.

ثانيا: حدود الدول في المشرق العربي: نظرة إجمالية:
الأصل في حدود الدول انها من رسم الجيوش. وفي كلمة جيوش تكمن قوة الاجنبي في رسم حدود دولة شعب ما. لكل شعب جيشه، وقوة جيشه في مواجهة جيوش تحتل اراضي ذلك الشعب، ترسم حدود الدولة. في الوضع المثالي ترسم ارادة الشعب مسلحا بجيشه حدود الدولة. الا ان الواقع على الارض كثيرا ما يخالف ذلك الوضع المثالي. يخبرنا التاريخ ان حدود كثير من الدول انما رسمتها ارادات خارجة عن ارادة الشعب. كثيرا ما ترسم جيوش الاخرين حدود دولة شعب ما بعد ان تهزم جيش شعب تلك الدولة.

ثم ان من الممكن تصنيف الدول بمعيار "طبيعيتها" الى صنفين يوجدان في المنطقة العربية، ملاحظا في الوقت نفسه غموضا في المعيار. ثمة دول ذات طبيعة واضحة متعارف عليها معترف بها، واخرى ذات طبيعة أقل وضوحا. لمصر وللمغرب مثلا وجود راسخ لا يمكن لكثير من الدول العربية ان تضاهيها في رسوخه. وبالطبع لا يحجب الرسوخ اشكالات الحدود. ونعلم ان لكل من الدولتين آنفتي الذكر، وهما من الأكثر رسوخا عربيا، اشكالات حدود.

ويطول بنا حديث ارادتي الداخل والخارج في موضوع رسم الحدود، وقد يضيع جدوى الحديث ان أحببنا في هذه العجالة استخلاص أحكام صلبة. لكل حكم صلب في هذا الشأن اشكالاته التي تفرض علينا ادخال مرونة أو مرونات في الصياغة. وقد تتبعثر الحكمة في ثنايا التعميمات وتشعيباتها النافية لها. لدينا واقع عياني نقاربه هو الوضع السوري. فماذا تقول لنا النظرة الاجمالية في مسألة حدود الدولة السورية؟

لم تكن في القرون الاربعة من الحكم العثماني حدود واضحة لامتداد نفوذ المدينة الاولى في بلاد الشام وهي دمشق. وحين تبلورت ولاية دمشق، بحسب نظام الولايات العثماني، كانت الى جانب مدينة دمشق وامتدادها ولاية حلب. وكان هناك وضع خاص لجبل لبنان الذي لم يكن خاليا بالكلية من تأثير دمشق.
وابتدأ العهد الفرنسي بعد استشهاد يوسف العظمة، وزير الدفاع السوري في معركة ميسلون، ابتدأ بتقسيم فيه شيء من الدقة، لذلك الجزء من بلاد الشام الذي وقع تحت الاحتلال الفرنسي. أتاح استشهاد العظمة، في 24/7/ 1920، أتاح لفرنسا أن تتصرف دون مقاومة تذكر في خلق كيانات شبه واضحة المعالم، كان بعضها موجودا سابقا على هيئة أقل وضوحا. ولد لبنان الكبير في أعقاب معركة ميسلون، وولدت معه كيانات سورية هشة نتج عنها جميعا تحجيم امتداد دمشق. أما ذلك الجزء من بلاد الشام الذي وقع تحت الحكم الانجليزي، فقد بدأت منذ ذلك الوقت معاناته من تصريح (وعد) بلفور ذي الطابع الديني الواضح فيه. وفي محاولة للتخفيف من أثر مقاومة وعد بلفور خلق كيان هو شرق الأردن. وكان خلقه من رحم متصرفية درعا التابعة تاريخيا لولاية دمشق. وكان خلقه، دون اخلال بالتصريح – الوعد، من خلال خلو تعبير "وطن قومي" من ال التعريف. وقد باح لي اللورد كارادون، ذات لقاء في عام 1972، وهو المشتهر بانه صائغ نص القرار 242، باح بانه اعتمد على السابقة البلفورية في عدم وضع ال التعريف امام تعبير" اراض محتلة" في النص الاصلي للقرار، وهو النص الانجليزي. وصفت اللورد كارادون بالمشتهر بأنه صائغ القرار لأن جورج براون، وزير الخارجية البريطاني آنذاك، ينسب الى نفسه، في مذكراته، الفضل في الصياغة النهائية للقرار الشهير الذي ما يزال يحكم ب " الغموض البناء" تكوين المشرق العربي. وهكذا فقد حددت الحقوق العربية --- أو السورية – ألا تعريف بريطانيتان. الأولى جاءت لصالح كبح المشروع الصهيوني، أي --- بمعنى ما --- لصيانة الحقوق، اي لخلق الأردن مستخلصا من امتدادية وعد بلفور، بينما جاءت الثانية لتحبط لقاء جنيف في آذار 2000 بين الرئيسين السوري والامريكي. وبالطبع فمن المستهجن ان تحدد براعة الصياغة -- وهي هنا ال التعريف -- حقوقا لا تنازل عنها بمقتضى القانون الدولي.

في 30 آب ولدت الدولة اللبنانية بحدودها الحالية. اضيفت الى لبنان التاريخي الاقضية الاربعة السورية، فولد لبنان الكبير. وفي التاريخ ذاته ولدت كيانات سورية ما لبثت أن وجدت هويتها الحقيقية في اقامة دولة واحدة هي سورية. وكان من الطبيعي ان يكون لواء اسكندرون ضمن الدولة الواحدة، إلا أن الرغبة في ارضاء تركيا، أملا في ابعادها عن المانيا في حرب قادمة، أقنعت القوى المهيمنة على منحها اللواء، كما كان منح فلسطين للصهاينة تمهيدا لتحقيق انتصار في حرب قائمة. هكذا دفعت بلاد الشام، من ارضها، ثمن الحربين العالميتين.
قد يتباين ما قلته سابقا عن تاريخ حدود الدولة السورية، التي أرجو ان تشكل منذ الآن هيئة للاحتفال بمئوية تحريرها من الدولة العثمانية، قد يتباين في تفاصيل منه مع سرديات اخرى، الا ان التباين لا بد الا ان يكون طفيفا. وادعو من لا يرى ذلك الى اثبات وجهة نظره.
ومن جهتي أضيف الى المتداول الشائع عن تلك الفترة هوامش ثلاثة صغيرة في التاريخ السوري الرسمي، وليست صغيرة بدلالتها الراهنة.

1-خلال ثورة ابراهيم هنانو عرضت فرنسا على قائدها خلق دولة كردية الطابع العام، عاصمتها حارم وهو، الكردي، رئيسها. رفض قائلا: لن يكون ذلك المخلوق دولة. انه سجن انفرادي.
2- امتدح ساطع الحصري، المفكر القومي العربي، وهو معاصر ذكي لتلك الفترة، قرار المجلس التمثيلي لدولة حلب، رفض الكيانية الحلبية والاندماج بدولة دمشق، وقارنه مع انصياع الاردن لفكرة جعله كيانا قائما بذاته. وبالطبع، علي ان أذكر بالمقابل أن سوريين وطنيين كثرا كانوا يرون في امارة الاردن، ثم في المملكة، وريثا شرعيا لحكم فيصل في دمشق، وهو حكم متعثر لكنه محبب، وكثير من محبيه لبنانيون. أذكر هذا " المقابل" لكي لا يفهم بحثي على انه من نتاج التوتر الشديد وقت الكتابة (اواخر نيسان 2017) بين الحكمين السوري والاردني.
3-شهد عام 1928 ما يصح ان يوصف بانه انتخابات نزيهة لمجلس تأسيسي سوري، ولم تكن سورية آنذاك تشمل منطقتي الساحل وجبل العرب. ورد في المادة الثانية من مشروع الدستور تعريف بحدود سورية على انها " البلاد السورية المنفصلة عن الدولة العثمانية"، اي بلاد الشام. عطلت فرنسا عمل المجلس. ثم حلته. ثم أعلنت في عام 1930 دستورا حذف منه هذا التعريف. بين حل المجلس في عام 1928 وبين صدور دستور 1930 دارت محادثات مطولة بين الوطنيين وبين السلطة الانتدابية من أجل الانتصار على الأزمة التي واجهت الانتداب بسبب اصرار الوطنيين السوريين على نص المادة الثانية. قدم الوطنيون تنازلات لم تقبلها فرنسا. وصف هنانو وهاشم الاتاسي، وهما زعيم الكتلة الوطنية ورئيسها، بالتتالي، الاقتراحات التسوية الوطنية بانها " تنازلات تكاد توقعنا بالخيانة". تمثلت الخيانة لهما بالتنازل عن وحدة بلاد الشام.

وأسجل هنا، وبحرف أوضح، وفي اجتماع لمركز ابحاث جيش لبنان، أسجل اقتراحا كثيرا ما دعوت اليه في سورية. أحب أن يكون للدبلوماسية السورية يومها، وارى ان الموعد الافضل هو 9 آذار 1920. في ذلك اليوم وردت كلمة " خارجية" في اول وثيقة رسمية تصدر عن سلطة تحكم دمشق، اذ كلف الملك أحد المواطنين، وهو فلسطيني، بالشؤون الخارجية. طمحت سورية الى ان تكون لها وزارة خارجية، اشارة الى استقلالها. قد يقال: 9/3 قد يغضب لبنان. قد يوحي بتوسعية سورية. واجابتي واضحة. سورية ترى لبنان وطنا نهائيا. و9/3 موعد توثيقي، فيه أعلنت دمشق استقلالها ضمن النظام الدولي، ويحق لها ان تعتبره بداية لدبلوماسية عصرية ممارسة منها. وينطبق على لبنان ما ينطبق على الاردن وفلسطين.
لم أدرس بدقة التزامن في واشنطن بين الايام الاخيرة التي سبقت صدور تصريح بلفور، والايام الاولى لإعلان الرئيس ويلسون حق الشعوب في تقرير مصيرها. ذلك أمر هام جدا في تقييم اخلاص ويلسون لمبادئه. الا ان من الواضح في المثال السوري الذي كان موضع هذا الجزء من البحث، أن حدود الدولة السورية لم يقررها فاعل واحد هو الشعب السوري وجيشه. كان لهذا الفاعل دوره، ونحب ان نقول: الدور الأهم. وكان للإرادات الخارجية دور ايضا.

توقف حديثي عند الجلاء وما سبقه. وبالطبع نعلم ان سورية خبرت وما تزال، احتلالا جديدا لجزء من أرضها نتيجة عدوان عام 1967. لن أخوض هنا في الوضع الجغرافي الناشئ عن ذلك العدوان المستمر منذ نصف قرن. اعود الى بعض آثاره في مكان لاحق.

وأختم هنا بملاحظة لا بد منها. اذ أكتفي بهذا القدر عن سورية، فإنني أدرك في الوقت نفسه انني اقتصرت على معالجة بعض الوضع السوري ضمن عنوان يصح الا تقتصر دلالته على سورية.

ثالثا: من منتجات الحروب في المشرق العربي:
ثمة امور ثابتة انتجتها الحروب في المشرق العربي بعامة، وفي البلاد العربية كلها، هي، بترتيب ورودها الى الخاطر وقت الكتابة، وما حسبته لحظتها من تسلسل في الاهمية، كما يلي:

1-    توطين الفقر. أشعر بهذا الأمر في سورية يوميا. لكن حتى في الدول العربية الاغنى نجد اقتصادا في الانفاق. ومن التكهنات المتداولة وقت الكتابة (اواخر نيسان 2017) ان العودة الجزئية الى الانفاق في المملكة السعودية انما هي مقدمة لتطورات كبرى. والله وغيري أعلم.
2-    ازدهار صناعة السلاح وتجارته، وما يتبع ذلك من احتشاد ثروات في اياد قليلة من جهة، وافقار دول من جهة ثانية، وتوسع في قتل الناس من جهة ثالثة.
3-    زيادة فاحشة في اعداد المهجرين واللاجئين والمحتاجين الى معونات انسانية. ونعلم بالطبع تأثير اللاجئين على الاوضاع العامة في كثير من دول اللجوء. ولأن اللجوء السوري هو الأكثف، فان تأثيره على الدول المجاورة كبير، وفي الطليعة منها لبنان والاردن حيث يسهل انخراط اللاجئ في المعترك الحياتي اليومي على ارضية وحدة اللغة.
4-    ما لا يحصى من نتائج اجتماعية في طليعتها ازدهاران متناقضان. ازدهار ممارسة التعصب بأنواعه كافة من جهة، وازدهار الدعوات الى ثقافة التنوير والعلمانية من جهة ثانية.
5-    وبنتيجة ازدهار التعصب نشهد انخفاضا في نسبة بعض المكونات الدينية الى مجموع السكان، كما نشهد تغيرات ديموغرافية حسب معايير متعددة من جهة ثانية.
6-    وينتج الخراب تنافسا بين الممولين الكبار في موضوع يتفوق جانبه الاقتصادي على جانبه الاخلاقي هو موضوع اعادة الاعمار.
7-    والحصيلة الكبرى من النتائج ثبوت تضاؤل دور النظام الدولي، وما يفترض ان يقترن به من مثل انسانية عليا، يفاخر بها قرننا ما سبقه من قرون.

تلكم نقاط سبع تقبل الاختصار والتطويل والدمج واعادة الترتيب، ولكل منظوره. وفي بحث كل منها مطولات متداولة. ولكن هل تنتج حدودا جديدة في المشرق العربي، كما في العنوان الكبير، أو تنتج حدودا جديدة في سورية، كما في فهمي الخاص الصريح للعنوان؟

رابعا: لماذا استبعاد امكان رسم حدود جديدة؟
ثمة تداول مستمر في امكان رسم حدود جديدة في المنطقة، ولاسيما لسورية وفيها. رغم ان هذا الامكان موجود، الا انه ضعيف مستبعد.

الامكان موجود، لأن امريكا إذا وافقتها روسيا، تستطيع اعادة رسم حدود سورية بما يناسبها ويناسب اسرائيل ودولا اقليمية وعربية. الا ان روسيا لا توافق ولن توافق. وليس في الافق ما يبرر القول بان لعدم الموافقة الروسية ثمن، حين يدفع، تتم الموافقة. تستطيع الارادة الدولية الانتصار على ارادة معظم السوريين، الا ان هذه الارادة ليست موحدة. حين جرى تطبيق اتفاق سايكس بيكو كانت الارادة الدولية موحدة. تمثلت المعارضة في موقف غامض ضعيف اتخذه الرئيس ويلسون حين بعث بلجنة كينغ – كرين الى سورية. ولنتذكر ان الفترة الاخيرة من حكم الرئيس ويلسون، ولاسيما في علاقتها بالشرق الأوسط، كانت غامضة مشوبة بالمرض. هو بالتأكيد، أو على الاقل في الارجح، لم يوقع على اية وثيقة تتعلق بوعد بلفور الذي نقلت موافقته عليه الى الحكومة البريطانية فأصدرت الوعد. وهو لم يكن ذا تصميم على معارضة الاتفاقات السرية التي أعلن شجبه لها.
لن تكون حدود جديدة دون رضى روسي، وروسيا حازمة في موقفها من انها ملتزمة بالتحالف مع الحكم السوري. ويصرح الرئيس السوري دائما بان لا تنازل عن اي شبر من الارض السورية، مؤكدا ان مهمة الجيش فرض سلطة الدولة على كافة المساحة السورية.

يوصلنا ما سبق الى ضرورة النظر المدقق في العلاقة الامريكية – الروسية، وفي العلاقة السورية – الروسية.
يصف لافروف العلاقة مع امريكا، في تصريح له الى مجلة اسكواير الامريكية، بانها أسوأ مما كانت عليه ايام الحرب الباردة. ولا اوافقه الرأي. تفرض على السياسي مهنته ان يرسم الوضع على النحو الذي يناسب سياسته. أفهم تصريح لافروف على أنه تحذير هدفه تنشيط التواصل. كما ان عدوان امريكا على مطار الشعيرات تحذير له هدف تواصل مبني على اساس احراز توازن في الميدان. بصفتي متابعا للسياسة الدولية واهم ما فيها علاقة موسكو بواشنطن اقول: كانت ايام زرع الصواريخ السوفييتية في كوبا، وايام أزمة برلين، أخطر بكثير من ايامنا هذه. لا أحد يتوقع مجابهة مباشرة بين موسكو وواشنطن. من الصحيح ان في واشنطن دوائر تخطط لمزيد من تفكيك سلطة موسكو على الجغرافية التي تسيطر عليها، ومن الصحيح أيضا وبالمقابل أن روسيا تخطط لمزيد من التوغل في اوروبا، والقرم شاهد، الا ان " لحظة الحسم" ليست قريبة، وفي الأرجح لن تأتي. ثمة مخاض عالمي غامض المعالم واضحة معا. يتعلق غموض المعالم بكيفية وزن القدرات المتنافسة الموضوعة في الميزان. أما وضوح المعالم فثابت من حقيقة أن العالم خرج، بالأزمة السورية وعبر عودة امساك روسيا بحقها في النقض، خرج من عالم الاحادية المقررة (بكسر الراء الاولى) الى عالم احادية منافسة، بل الى ثنائية، بل الى تعددية. غزو العراق انموذج، والوضع في سورية انموذج مقابل.

وتعتمد قوة العلاقات السورية – الروسية على قواعد عديدة متنوعة، تمتد من محور الاستراتيجية الجيو-سياسية العسكرية، عبر التقدم الى مناطق جيوسياسية كانت محظورة على روسيا في السابق، وليس انتهاء بتحقيق ثنائية معترف بها مع الولايات المتحدة، مع امكان البناء على الثنائية لتصبح موسكو، روما الثالثة، المنسق الاول بين القارات الثلاث.
ولا نهاية للتنظيرات، ولا للعوالم التي تتخيلها الاستراتيجيات. فلننظر الى الواقع. ثمة نزيف دم في المشرق العربي، واغزره في سورية. وثمة نذر بمزيد من النزف. وما ابتدأ في سورية على انه صرخة من أجل الحرية والديموقراطية، وهي صرخة حق ولا بد من التصريح بهذا، توضحت صورته الآن، اما نتيجة تطورات الاحداث أو بتخطيط سابق للأحداث، توضحت حقيقته كاشفة عن تنسيق بين أطراف عدة بينها اسرائيل. وحين نقول ان اسرائيل ليست غريبة عن تنسيق مناهض لسورية ولحكمها، فلن ننسى انها الوحيدة من بين كل دول التنسيق، التي تطالب علنا بشرعنة رسم حدود جديدة لسورية قائمة على أساس واقع الاحتلال. وتلي تركيا اسرائيل في محاولة خوض تجربة رسم حدود سورية جديدة بالحروب. وفي انتقادات أردوغان المتكررة لمعاهدة لوزان، تصريح واضح بان تركيا تخطط لكي تدفع بحدودها جنوبا على حساب سورية. أما آخر المصرحين برسم حدود جديدة، فهو ذلك العهد الحوراني الذي لا أرى اهلنا في حوران  -- وأستمر على صلة حميمة مع كثيرين منهم --، لا اراهم الا أشد المقاومين له.

ولا تنتهي حكاية رسم حدود جديدة بالجولان أو بمناطق سورية محاذية في الشمال والجنوب. لدينا احتشاد سلاح العالم في الشمال الشرقي بمواجهة داعش، سلاح تشهره دول وجماعات مسلحة سورية وغير سورية. الوضع دقيق هناك، والتحالفات متقلبة متقاطعة. تصوب تركيا، حليف أمريكا في الأطلسي، على حليف سوري لأمريكا متمثل في قوى سورية الديموقراطية. تتشارك روسيا وغريمتها أمريكا في التعاطف مع فئات كردية تشهر الفدرالية أو تذهب الى حد الدعوة الى استقلالية كاملة. وتكثر التكهنات بشأن ما بعد داعش في العراق وفي سورية. وتستعاد خرائط نشرتها الصحف قبل سنوات عن كيفية تفتيت المنطقة. ويكثر الحديث عن مناطق آمنة أو عازلة أو مجردة من السلاح أو محظور فيها الطيران.  انه شرق اوسط جديد أو كبير أو عريض. فأية رؤية للمستقبل؟
ثمة مؤشرات متناقضة بشأن المستقبل. هناك احتمال استمرار التقدم العسكري السوري البطيء لإعادة السيطرة على كامل المساحة السورية، مدعوما بمصالحات تتم وفق اسس عملية تلقى قبولا صامتا من القوى المعارضة المتعقلة الفاعلة. التقدم في هذا الاحتمال يتطلب تفاهما أعمق بين روسيا وامريكا، وهو أمر ليس مستبعد الحصول. تتيح آليات جنيف وأستانة والوساطة الدولية ومرجعية القرار 2254، تتيح هذه الآليات المجال للتفاؤل الحذر. وفي مجال استنبات التفاؤل عبر التحذير أدرج تصريح لافروف آنف الذكر.

وهناك امكان لاستمرار تصدي المعارضة مدعومة ممن يدعمها للتقدم العسكري البطيء. وقد لا يكون لهذا الأمر نهاية في المستقبل المنظور. هذا الامكان مرهق للمنطقة كلها، وقد لا تنجو اسرائيل من الارهاق المتولد المتعاظم سريع الانتشار.
وتثار بالطبع مسألة رسم حدود جديدة مرتكزة على اساس من مناطق آمنة أو عازلة أو مناطق حظر جوي، أو مناطق حكم ذاتي لاثنيات معينة اهمها الاكراد والتركمان. مثل هذا التدبير يخل بالكثير من المعادلات الداخلية في دول المنطقة. كل عبث بالحدود الدولية الراهنة لسورية، وكل محاولة لرسم حدود داخلية سورية بإرادة دولية، دعوة الى فوضى عارمة مكلفة للجميع.

 ثم ان ما يعزز استبعاد امكان رسم حدود جديدة تأكيد الغالبية الساحقة من المعارضين معروفي الهوية على رفض تقسيم سورية. صحيح ان الدولة السورية التي نشأت في اعقاب الحرب العظمى ضمت اطيافا متنوعة من المواطنين، وصحيح ان عملية الاندماج المواطني لم تتم بأحسن الصور، الا ان من الصحيح ايضا ان سورية من أفضل دول المواطنة بين البلاد العربية، وربما أفضلها اطلاقا، ومن الصحيح فوق ذلك ان السوريين أشداء في حرصهم على وحدة الدولة وفي تصديهم لمحاولات التقسيم.

تتضمن رؤية المستقبل مشاهد عديدة، الا ان مشهد رسم حدود جديدة مستبعد جدا.
خامسا: خاتمة: من مئوية وعد بلفور إلى مستقبل من الامن والتعاون في المشرق؟ والأوسط؟ والأوسط والمتوسط؟

يلفت النظر في تطورات الايام الاخيرة اعتذار بريطانيا الضمني عن وعد بلفور، رغم تصريحها المعلن برفض الاعتذار. أوردت وكالات الانباء– بحسب ما قرأت في جريدة البناء 24 نيسان 2017 -- فقرة في بيان رفض الاعتذار نصها كما يلي:
"وندرك أن الاعلان كان يجب ان يدعو الى حماية الحقوق السياسية للسكان غير اليهود لفلسطين، ولاسيما حقهم في تقرير المصير".

وقبل ان ابين عدم كفاية هذا الاعتذار الضمني، واتابع موضوع تفكيك البنيان الفكري لوعد بلفور، أود ان أقول أنه الى مؤتمرنا هذا، في دورتيه عام 2013 وفي عام 2016، يعود جزء من الفضل في تقدم بريطانيا الى الاعتراف بقصور الوعد.
في عام 2013 قال السفير البريطاني امام الجلسة الافتتاحية لمؤتمرنا ان المكتب الدبلوماسي لرئيس وزراء بريطانيا ما يزال يدرس رسالة وجهتها الى رئيس الوزراء آنذاك، وسلمتها باليد الى سفير بريطانيا حين قام بزيارتي في المنزل عشية الأحداث السورية. قال السفير ما قاله محاولا التقليل من أهمية الرسالة التي طلبت فيها من السيد كاميرون المساهمة بمقال للطبعة السادسة من كتابي بعنوان: وعد بلفور، يقيم بها ذلك الوعد. أتى تقييم حزب كاميرون للوعد متأخرا بسنوات ست بعد الطلب المحق. تأخرت استجابة الحكومة البريطانية على الطلب المحق بأكثر مما تأخرت استجابة الحكومة السورية للطلبات المحقة التي قدمت اليها. أقارن هنا بين استجابتي الحكومتين، لأن السفير البريطاني في كلمته أخذ على الحكومة السورية تأخرها في الاستجابة الى الطلبات المحقة، وهو مأخذ أوافقه عليه. ولكنه مأخذ يوجه مضاعفا الى الحكومة البريطانية ممثلة بأرفع نخبها.

 ثم ان مؤتمرنا هذا عام 2016، وفي أولى توصيات لجنته الثانية طالب المركز بمخاطبة الخارجية اللبنانية لإثارة موضوع مئوية الوعد خلال القمة العربية. وقد يكون انه من خلال تلك التوصية، أو من خلال قنوات اتصال اخرى، وصلتني قبيل انعقاد قمة عمان، رسالة من سفارة فلسطين في دمشق تنقل الي تحيات الرئيس الفلسطيني وتقديره، ونيته ان يبحث في القمة نقاطا وردت في مذكرة مفتوحة وجهتها الى القمة بشأن المئوية. ولعل من المفيد لمؤتمرنا في دورته هذا العام أن يقف مجددا عند الوعد ومئويته، ويوصي بضرورة الاستمرار في عملية تفكيك بنيانه الفكري.

قلت قبل قليل ان البيان البريطاني غير كاف. في البيا ن اعتذار لكنه ضمني. الاعتذار الصريح أوفى بالغرض. والغرض هنا تضميد جرح الفلسطيني الجريح الذي يخوض اليوم معركة الامعاء الخاوية، وهي معركة ولا أنبل، تعرف بريطانيا نبلها، بل نبلها ومجدها، من تجربتها في ايرلندا.
وقلت ان علينا متابعة تفكيك البنيان الفكري للوعد. يذكر بيان الخارجية البريطانية تبريرين للوعد: ديني وتاريخي. فأما الشأن الديني فينبغي ان يعهد النظر فيه الى لجنة حوار الاديان في الامم المتحدة، والى اخوات كثيرات لتلك اللجنة في نظام الامم المتحدة وعائلتها. واضع سلفا أمام اللجنة ورقة عمل عن الموضوع قدمتها الى جامعة الروح القدس عام 2008 وعنوانها "وعد بلفور في كتب الديانات الثلاث". وفيها أقدم رأيا مفاده أن بلفور هو الجد الفكري الأعلى لهذا أو ذاك من الناس والتنظيمات.

أما الشأن التاريخي فمن اختصاص اليونسكو المعنية بكتابة تاريخ العالم.
يحسن بمؤتمرنا ان يلح على ما سبق في توصياته، فعامنا هذا تاريخي لأنه عام مئوية وثيقة ساهمت أكثر من أية وثيقة أخرى في كتابة تاريخ المنطقة. ورئاسة القمة الراهنة معقودة لدولة كانت ولادتها من نتائج تنفيذ وعد بلفور، وللحد من امتداده الجغرافي. وما يزال امام القمة العربية وامام دولة فلسطين مجال من الوقت للعمل السريع الدقيق العالي المستوى في المسافة الزمنية التي تفصل بين يوم النكبة وبين 2/ 11/ 2017. وربما كان على رئيس القمة العربية ان يقوم بجهد مركز معلن في هذا الاتجاه.

ابتدأ عنوان هذه الجزئية من البحث بمئوية وعد بلفور وانتهى الى مؤتمر منشود للأمن والتعاون في المشرق أو في الاوسط، أو في الاوسط والمتوسط. عندي الكثير الجديد الذي أضيفه الى ما قلته في العام الماضي، والذي نشرته ضمن كراس ظهر قبيل قمة عمان. إلا ان البحث طال متجاوزا الحد الأقصى الموصى به من قبل المركز. أختم اذن بجوهر البحث وهو واضح في كل حال:
على روسيا وامريكا ان تكونا أكثر جدية عملية والتزاما اخلاقيا في ترتيب شؤون المنطقة والعالم. المنطقة أولا ثم العالم. هنا، أيها الرئيسان الكبيران، هنا تزهق الأرواح.

دمشق في 26/4/2017