الخميس، 15 أغسطس 2013

الإشكال بين الأخوة في الدين وبين المساواة في المواطنة



مائة عام على معهد الحقوق العثماني فالعربي فكلية حقوق جامعة دمشق:
 1913 – 2013
فضيلة الشيخ علي الطنطاوي وأستاذه العلامة فارس الخوري:
الإشكال بين الأخوة في الدين وبين المساواة في المواطنة

                    الدكتور جورج جبور
                                                   رئيس الرابطة السورية للأمم المتحدة
                                                     وسابقاً أستاذ محاضر في الدراسات العليا
                      بكلية حقوق جامعة حلب

(1)
في 6/10/2013 تَبَلَّغَت بيروت فرماناً سلطانياً ينقل إليها معهد الحقوق العثماني الذي كانت تحتضنه سالونيك. في وقت لاحق أصبح المعهد العثماني عربياً. انتقل إلى دمشق بعد الحرب العالمية الأولى، وفتح أبوابه للتدريس في 15/9/1919 تحت اسم جديد: معهد الحقوق العربي، ثم في 15/6/1923 أنشئت الجامعة السورية، وفي وقت لاحق أصبح المعهد كلية الحقوق في الجامعة السورية التي أعيدت تسميتها أيام الوحدة فأصبحت جامعة دمشق.

بين المؤتمر العربي الأول في باريس (18/6/1913) الذي عقد في قاعة الجمعية الجغرافية، وبين إنشاء معهد للحقوق في بيروت صلة نسب. يعود الفضل في نقل معهد الحقوق العثماني من سالونيك إلى مطالبات ملحة قام بها أبناء بلاد الشام لإنشاء معاهد عليا في بلادهم. تجذرت هذه المطالبات في المؤتمر العربي الأول. وهكذا لا نجد مؤرخاً لمعهد الحقوق في بيروت يغفل أثر المؤتمر في إنشائه.

على أساس هذه الخلفية عزمت على إلقاء محاضرة في دمشق يوم 18/6/2013، في ذات اليوم الذي فيه انعقد المؤتمر قبل مائة عام، تحت عنوان: "دراسة الحقوق وتدريسها: ذكريات وتأملات". ثم كانت ظروف سفر اضطرتني إلى التأجيل.

وكبديل عن الكلام أخط الآن هذه الأسطر،لأسجل عبرها بعض ما كنت أعتزم الحديث فيه. وقد تكون لي عودة إلى مزيد من الكلام المسطور في مقال لاحق. 

(2)
منا  من يجتهد فيدون مذكراته ، ومن  يفعل يحظى بشكر اللاحقين. من هذه القلة المجتهدة فضيلة الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله. ابن دمشق هو. وكتب عنها الكثير المفيد. غادرها وأقام في السعودية حيث أتاحت له الظروف إمداد عاشقي أسلوبه بإنتاج غزير.

كان له في دمشق حديث أسبوعي في إذاعتها أتابعه كما أتابع مقالاته في الصحف الدمشقية. يأسرني أسلوبه. لا أملك قطع الاستماع إليه أو وقف قراءة مقالاته. ثم كانت لي زيارة إلى السعودية. تجاور سوريان في الطائرة فتعارفا وتحادثا، وشاءت الصدف أن يكون الشيخ الطنطاوي أحد محاور الحديث. تبرّع السوري المقيم في السعودية بإهدائي نسخة عن مذكرات الشيخ. استهوتني. وهذه الأسطر تعتمد على جزئها الثاني علماً أنها تقع في ثمانية أجزاء يقارب مجموع صفحاتها الثلاثة آلاف، وقد طبعت عام 1985. وكانت قد ظهرت على حلقات في جريدة الشرق الأوسط.

أقف عند مذكرات الشيخ عن كلية الحقوق التي قبل بها طالباً في 4/11/1930. ثمة حلقة عنوانها: "ذكريات عن الأساتذة والمشايخ" (163 - 173)، وأخرى عن "ذكريات عن الجامعة والامتحانات" (175 - 183)، وثالثة عن "فارس الخوري" (185 - 195).

مفيدة هذه الفصول لكلية حقوق جامعة دمشق التي أعلن عميدها، صديقنا الدكتور محمد واصل، عبر مقابلة في جريدة الثورة (16/7/2013) بأن احتفالاً سيقام بمناسبة مائة سنة على ولادة الكلية.

وقف الشيخ الطنطاوي عند بعض أساتذته. عرّفنا بعالم منهم مفتي الشام  هو الشيخ الدكتور أبو اليسر عابدين، سليل مؤلف "حاشية ابن عابدين" الشهيرة. "كان أستاذاً في كلية الحقوق، فخطر له أن يدرس الطب، ودراسة الطب لا تتم إلا بمعرفة اللغة الفرنسية، فتعلمها وصار طالباً نظامياً في الطب وهو أستاذ يدرس في الحقوق حتى حاز شهادة دكتور في الطب سنة 1926".. "ترك ثلاثين مؤلفاً فكرياً بخطه رأيتها وكتبت عنها في جريدة الأيام الدمشقية في 18/5/1961. ما طبع منها إلا واحداً هو كتاب "أغاليط المؤرخين" (ص169)". ومن أساتذته سعيد محاسني "وهو أقدر محامٍ عرفته الشام ومصر في الدعاوى المدنية" (ص169).... وكان أستاذ مجلة الأحكام العدلية التي صدرت عام 1286 هجرية" (1869م). يصف الطنطاوي درس المحاسني بأنه كان "فياضاً بالفوائد، لاسيما حين يحدث الطلاب عن بعض ما مرّ به من قضايا والتي كان يرافع فيها. وكان إلى علمه الواسع ذكياً من أذكى من عرفته من الرجال...." (ص170).

ويتابع الطنطاوي بأسلوبه السلس حديثه عن أساتذته فيذكر ان  منهم "من كان قائماً بعمله ناجحاً فيه. لا هو بالعالم الظاهر علمه، ولا هو بالجاهل المكشوف جهله. منهم الأستاذ شاكر الحنبلي.... لما أصدر كتاب أصول الفقه وأهداه إلي وجدته يعرض فيه كتاب  المنار عرضاً مفهوماً بأسلوب العصر، لكن ساءني منه أنه سرق من كتاب الشيخ عبد الوهاب خلاف صفحات وصفحات، نقلها كما هي ولم يشر إلى مصدرها. ولم يمنعني كونه أستاذي أن أشير إلى هذه السرقات لما كتبت - كما طلب مني - نقداً للكتاب" (ص170 - 171).

ويتابع الطنطاوي حديثه عن أساتذته فيصف بعضهم بأنه "أقرب إلى الضعف" ولا يسمي أحداً. وينتقل بعدها إلى حديث إعجاب بأستاذ فرنسي اسمه ستيف، وبآخر ذكي كسول هو فايز الخوري. ثم يعود إلى تقييم سلبي للبعض من أساتذته ولا يسمي أحداً (171 - 172). شاكر الحنبلي هو الوحيد الذي قرن الطنطاوي ذكره بصفة سلبية هي سرقته. ولعله فعل ذلك لأنه سبق له أن أشار إلى تلك السرقة في مقال منشور، على حد ما ورد آنفاً. 

(3)
أما أول من يذكر من الأساتذة، قبل كل من وردت أسماؤهم أعلاه، فكان فارس الخوري. به يبتدئ الحديث عن أساتذته كما يلي: "كان الأساتذة طبقات . منهم واحد سأفرد للكلام عنه حلقة هو العالم الشاعر الفحل الخطيب البارع في العربية وفي الإنجليزية رئيس مجلس النواب مرات ورئيس الوزراء وكان رئيس مجلس الأمن مرة، وهو أحد عباقرة العرب في هذا العصر، وأسأل الله أن يكون حقاً ما كتبه عنه من كان ملازمه في مرضه وحاضراً في وفاته من أنه مات  مسلماً وهو فارس بك الخوري" (ص166).

وأفرد الشيخ الطنطاوي حلقة عن فارس الخوري بـ/11/ صفحة ابتدأها كما يلي: "كان أستاذي. استفدت منه. وقدرت فضله. ومدحته. لكن كان آخر مسلم في آخر الأرض أقرب إلي منه!" (التأكيد مضاف).

"هذا الكلام لم أقله الآن. لكن صدعت به على المنبر قبل ثلاثين سنة. فاستأذنني الأستاذ أحمد عسه (وكان يوماً تلميذي) أن ينشره في جريدته فنشرته الجريدة بالخط الكبير (المانشيت) وبالقلم العريض. وكانت إحدى مرات ثلاث ثارت جرائد دمشق كلها عليّ وتبارت في ذمي وشتمي وجرب كل ذي قلم قلمه فيَّ. أما ذنبي الذي لا يغتفر فهو أني (كفرت) بدين الوطنية ودعوت إلى الطائفية وفرقت بين المواطنين بسبب من اختلاف الدين وهم ينشدون كل صباح:
 بلاد العرب أوطاني             من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن                إلى مصر فتطوان
فلا دين يفرقنا............

لا يفرقنا الدين! أي أنهم يريدون أن يجعلوا الكافرين كالمسلمين، وأن ندعو بدعوة الجاهليين، ندع كلام رب العالمين "إنما المؤمنون إخوة" وننكر أضواء الإيمان ونتمسك برابطة اللسان فيكون أبو لهب وأبو جهل أقرب إلينا من بلال وسلمان... كلا ولا كرامة! قلتها في أول حياتي وأقولها الآن".. (ص185).

ويصف الشيخ حملة الصحف عليه في أسطر ليتابع عن فارس الخوري كما يلي: "أما الذي تكلمت عنه هذا الكلام، فأثار علي أصحاب الأقلام من المسلمين، فرموني بكل جارحة من التهم، وكل قارص من القول ،وهو أستاذنا فارس الخوري،  فقد قابلته في الطريق، فحاولت أن أقول له شيئاً فسبقني فقال لي (بالحرف الواحد):
"لا عليك. لقد  جهرتَ بحكم دينك وهذا ما أكبره فيك ، وجعلتني أقرب  النصارى إليكم وهذا ما أشكرك عليه" (186).

(4)
لا أذكر بالضبط متى عهدت إلي كلية حقوق جامعة حلب بتدريس مقرر "المذاهب السياسية" في قسم الدراسات العليا حين أنشئ ذلك القسم. كان مقرراً اختياريا لطلاب دبلوم القانون العام ودبلوم القانون الدولي. كنت درست المقرر ذاته في كلية حقوق جامعة دمشق على الأستاذ الدكتور الوزير مصطفى البارودي في النصف الثاني من الخمسينات. كان كتابه الفرد والدولة واحداً من أكثر الكتب إثارة للنقاش في قاعات التدريس وخارجها.

تأملت في كيف أهندس الجلسة الأولى مع الطلبة وعددهم يقارب العشرين ممن يعتبرون الأكثر تفوقاً بين زملائهم من خريجي الكلية. ثم استقر رأيي على مفاجأة. صورت على عددهم نسخاً من أولى صفحتي حلقة الشيخ عن الاستاذ الخوري– وهي التي اوردتها سابقا- . وزعتها عليهم. عرفتهم باسمي. عرفتهم بعنوان المقرر. طلبت منهم أن يتمعنوا في النص . طلبت منهم أن يعلّقوا عليه في  مدة لا تتجاوز العشرين دقيقة. حين جمعت ما كتبوا فوجئت. بعضهم لم يكتب شيئاً. معظمهم  أّيَّد ما قاله الشيخ . واحد منهم فقط اعترض وانتقد بحدة. سألته أن يقرأ أمام زملائه ما كتب. وكانت مناقشة معمقة حول  الاشكال بين الاخوة في الدين وبين المساواة في المواطنة،  وحول كيفية  المصالحة بين الامرين .

ما أزال أذكر بغبطة  تلك البداية العرمرمية لمقرر المذاهب السياسية، ويذكرها معي  بعض طلابي . وما أزال أتساءل: هل كان لأمورنا أن تنحدر إلى ما انحدرت إليه من مآسٍ لو أن جامعاتنا - وليس كليات الحقوق فقط - شجّعت النقاش في موضوع إشكال العلاقة بين الأخوة والمواطنة، وفي المواضيع الأخرى ذات الصلة بالشأن العام التي نناقشها الآن بشعارات في الشوارع؟

(5)
في أوائل الشهر العاشر من عام 1913، قبل مائة سنة، كان لنا معهد للحقوق في بيروت. تفصلنا عن المناسبة عدة أسابيع. قد تكون لي عودة إلى ذكريات دراسة الحقوق وتدريسها في مقال مقبل. عودة أتحدث بها عن أمر مجهول ينبغي أن تفاخر به كلية حقوق جامعة دمشق كل كليات الحقوق العربية. جوهر هذا الأمر المجهول سورياً وعربياً وعالمياً أن الخوري الذي كان أستاذاً للشيخ اقترن اسمه بمادة في ميثاق الأمم المتحدة هي المادة /78/ التي كانت تعرف في أروقة مؤتمر سان فرانسيسكو بأنها مادة سورية. في الحديث عن مآثر سورية محاولة لصيانة دماء أبنائها  ولتحصين وحدتيها الوطنية والترابية.