الخميس، 14 يناير 2016

حديث عن المواطنة، مع تركيز على المواطنة السورية في جوهرها وممارستها

كلمة في افتتاح ندوة عن المواطنة السورية: جوهرها وممارستها، دعت اليها الرابطة السورية للامم المتحدة. المركز الثقافي العربي، ابو رمانه، 14-1 – 2016، الساعة 12 ظهرا.

 
حديث عن المواطنة، مع تركيز على المواطنة السورية في جوهرها وممارستها
 

أولا: مسلمتان: المواطنة موضوع متحرك باستمرار، والمواطنة السورية هي الأرسخ عربيا:

يستأثر موضوع المواطنة بمزيد من الاهتمام العالمي، ولاسيما في الدول التي تشهد حراكا سياسيا سلميا و| أو عنفيا، وفي الطليعة من هذه الدول وطننا السوري الحبيب. ويأتي عقد الرابطة لهذه الندوة ضمن إطار انشغال وطني سوري جاد من اجل انهاء الوضع المؤلم الذي نعيشه منذ سنوات خمس. وأصرح منذ البداية انني متفائل اليوم أكثر من اي وقت مضى بإمكان بلوغ حل يصنعه السوريون بتشجيع دولي. وبالطبع سيكون لتوضيح مفهوم المواطنة السورية دور محوري في بلوغ الحل.

توضيح مفهوم المواطنة السورية لا يعني الوقوف عند لفظ بعينه او فكرة بعينها. فالمواطنة موضوع متحرك باستمرار، عندنا وعند غيرنا. يقال علينا العناية بالمصطلحات وبالتعريفات. لا أحد يعترض على نبل القول وما وراءه من عاطفة وفكر. الا ان الركون الى مصطلح والقطع بتعريف يتنافى مع الطبيعة الحركية اليومية للمواطنة. ليس ثمة في العلوم الاجتماعية ركون وقطع. ثمة مقاربة، وثمة في المقاربة عين على الجدوى العملية. غائية العلوم الاجتماعية امر يدركه حتى أكثر اختصاصيي تلك العلوم حماسة لعلميتها الحيادية.

منذ بضعة اسابيع اثار دونالد ترامب، المتنافس ضمن الحزب الجمهوري الفوز بترشيح حزبه له للرئاسة، أثار ضجة كبرى لأنه طالب بمنع المسلمين من دخول امريكا. رد على الحملة بالعودة الى ما فعله روزفلت اثر بيرل هاربور اثناء الحرب العالمية الثانية حين احتجز مائة الف مواطن امريكي من اصل ياباني بانهم قد يكونون طابورا خامسا. اما الرئيس ساركوزي فقد شغل فرنسا بموضوع تحديد الهوية الوطنية الفرنسية بقصد الحد من ممارسة مواطني فرنسا المسلمين بعضا مما يعتبرونه اساسيا في شؤونهم. لم تصل المناقشة في هوية فرنسا الوطنية الى نتيجة فكرية. اما نتيجتها السياسية فكانت فشل ساركوزي في الفوز بولاية رئاسية ثانية. ولنلاحظ ان فرنسا تعتبر ان الديموقراطية هي التمسك بقيم الجمهورية. الا أن من المتعارف عليه ان المملكة المتحدة دولة ديموقراطية وقد تتفوق في ديموقراطيتها، عند البعض، على الديموقراطية الفرنسية، الا ان قيمها ليست جمهورية.

المسلمة الاولى التي اود التأكيد عليها هنا هي انه لا نهاية للنقاش في موضوع المواطنة، وتنبثق عن هذه المسلمة الاساسية مسلمة مشتقة منها مؤداها ان النقاش المستمر في موضوع المواطنة سبيل لصقل جوهر ها ونحسين ممارستها.

المسلمة الثانية اجتهاد شخصي رسخ مما تجمع لدي من علم عن الدول العربية وخبرة في امورها. مؤدى هذه المسلمة ان المواطنة السورية في الجوهر والممارسة ارسخ مما عليه حال المواطنة في الدول العربية الاخرى. لا يصلح، في علم الوحدة العربية، المباهاة بتقدم قطر على قطر عربي آخر. في الافتخار بالذات تكمن احيانا – وليس دائما -- نية عدم الايمان بالوحدة العربية. ولن اغوص في موضوع الوحدة ونحن مهددون بمزيد من التجزئة. أكتفي بالقول، تبرئة للذمة، انني منذ عام 1971 اخاطب السلطة السياسية الاعلى في سورية، ومن موقع المسؤولية، بضرورة انشاء مؤسسة لدراسات الوحدة العربية. وما تزال الاستجابة مطلوبة ومفيدة. ثم ان ما اقوله الآن موثق في كتب لي اصدرتها وزارة الثقافة السورية ومؤسسات سورية رسمية اخرى. وبالطبع ينبغي علينا ان نتساءل هنا: هل طورت المؤسسات البحثية العربية معايير لقياس درجات التقدم في المواطنة وفي غيرها من المفاهيم؟ نعم، ولكن ببطء وربما ايضا بأهواء. ويطول الحديث في هذا الامر. ما أحب ان ادعم به مسلمتي -- وهي مسلمتكم جميعا كما اقدر -- في ان المواطنة السورية، في الجوهر والممارسة، هي الارسخ عربيا يعتمد على بضعة ركائز. الركيزة الاولى اننا الدولة العربية الاقرب الى العلمانية. لم يعرف مشروع دستور المؤتمر السوري نصا على دين للدولة، ولم يتضمن اي من دساتيرنا المتعاقبة نصا على دين للدولة. كما ان ثقافتنا السياسية والاجتماعية ترفض، في الغالب، تقييم الناس او تصنيفهم بمعيار الدين او القبيلة او العشيرة او العائلة، اي بمعيار موروث. كذلك يمتاز نظامنا التربوي بتبنيه الكبير لمبدأ تكافؤ الفرص، فهو مجاني ليس من عهد البعث بل قبل ذلك. ويمارس مواطنونا عادة الذهاب الى صناديق الاقتراع رجالا ونساء دون تمييز، ولا يعني هذا مني، في كل حال، اعجابا كبيرا بعملياتنا الانتخابية. ومؤخرا، وان يكن في ظل الاحداث المؤلمة، وجدت المواطنة لنفسها موضعين في دستور 2012. ففي مقدمته اتت ضمن قائمة مطولة من المبادئ الاساسية كان منها " الحريات العامة وحقوق الانسان" وكان منها ايضا " المواطنة وسيادة القانون". ثم ان المواطنة استأثرت منفردة بالفقرة الثانية من المادة 33 من الدستور، وهذا نصها: " المواطنة مبدأ أساسي ينطوي على حقوق وواجبات يتمتع بها كل مواطن ويمارسها وفق القانون". واذ اتحدث عن الدستور الجديد فلا بد لي من التعريج على نقطتين. الاولى: أسجل للدستور الجديد فتحا في انه اعاد الى تعبير " حقوق الانسان" اعتباره فلم يعد ذا وصف واحد وحيد وهو انه مؤامرة استعمارية. هو يخضع لابتزاز يمارسه بعض الكبار ولكنه في جوهره تطلع انساني كنا روادا فيه، بدءا بشريعة حمورابي وليس انتهاء بانشائنا اول هيئة لتنظيم الدفاع عن حقوق الانسان الا وهي حلف الفضول الجاهلي المبارك نبويا. ونعلم بالطبع ان لدينا الآن في مجلس الشعب لجنة دائمة اسمها " لجنة الحريات العامة وحقوق الانسان" وبغرض ترسيخ علمنا بالمواطنة علي التذكير ان الحزبيين البعثيين في مجلس الشعب (2003- 2007) كانوا قد وافقوا في اجتماع حزبي يوم 28 شباط 2005 على اقتراح بإنشاء لجنة دائمة في المجلس للحريات والحقوق. ذهب الاقتراح الى القيادة القطرية ومات. باسم الحق في المعلومة اطلب من القيادة القطرية ايضاح اسلوب معالجتها الاقتراح حتى انتهى الى موته. بل واضع هذا الامر على جدول اعمال اللجنة الحالية للحريات العامة وحقوق الانسان. اما النقطة الثانية فهي أننا، وبعد ما يقرب من أربع سنوات من اقرار الدستور الجديد، ما نزال نفتقد الاعمال التحضيرية له. أعلن أحد الوزراء ذات يوم، في ندوة عامة، وكان عضوا في لجنة وضع الدستور، ان هذه الاعمال سوف تنشر قريبا. من مظاهر الامانة لمبدأ المواطنة اتعاب المسؤولين في متابعتنا تنفيذهم وعودهم. تحدثت في أسطر عن جوهر المواطنة السورية، ثم لعلي بما مارست من حرية الاستطراد اوضحت شيئا من اسلوب الممارسة. لكن ما تم من استطراد لا يشفي غليلي. لدي ما هو أكثر مما قلت. وأرحب بكل دعوة تردني من جهة رسمية لأقول ما تفرض علي مواطنيتي السورية قوله، ارثا لأولادنا من معايش للشأن العام، تجاوز بعامين ثلاثة ارباع القرن، فلم يعد منافسا فيه.


ثانيا: ثلاث خواطر:      

ليست المسلمات كالخواطر. في الخواطر اثارة ومغامرة. ولكي تتحول الخاطرة الى مسلمة تتطلب قدرا من التدقيق والتحقيق. المسلمة وجبة كاملة، اما الخاطرة ففاتحة للشهية.

1-      من صلح وستفاليا الى وعد بلفور فالدولة الاسلامية: من الشائع اعتبار صلح وستفاليا بداية الامة – الدولة. الولاء منحصر في الولاء للدولة التي هي وعاء كل رعاياها، رعايا يتطورون إلى مواطنين بغض النظر عن المذاهب – وهي هنا المذاهب المسيحية -- . ثم جاءت الثورة الفرنسية ومن اهم ما فيها انها ساوت اليهود والبروتستنات بالفرنسيين الكاثوليك، وادخلت مصطلح المواطنة في التداول الفلسفي والسياسي. ثم اتى وعد بلفور فكان فيه شعب يهودي عابر للقارات اعطي له معا ان تكون له دولة على ارض محددة ورعايا- مواطنون في مختلف بلدان العالم . انتهك وعد بلفور صلح وستفاليا اي التراث المتعارف عليه في الحقوق الدستورية والقانون الدولي. هيأ الوعد ارضية فكرية للدولة الاسلامية بأطيافها المختلفة. وها ان ظلالا من اسلامات ليست مسلمة تهدد العالم. تقترب مئوية وعد بلفور. علينا اثارة ما عناه الوعد من خلق امم دينية عابرة للدول والقارات. أكبر مناهض لوعد بلفور كان وزيرا يهوديا في مجلس الوزراء الذي أصدر الوعد. طالب بالا يجرد من مواطنيته البريطانية، ليعود يهوديا مكتوبا له ان يصبح من رعايا دولة دينية. قال ان ما تحاوله الحكومة من خلال الوعد انما هو" تصنيع شعب لا يوجد". نشرت النصوص الكاملة لمذكرات الوزير اليهودي الرسمية عام 1967، بمناسبة انقضاء خمسين عاما على كتابتها. أسأل لجنة رسمية-شعبية لم تشكل بعد، وآمل تشكيلها قريبا في دمشق رغم جروحاتها وكدليل على تعافيها، أسأل هذه اللجنة ان تعمل منذ الغد على اعادة نشر هذه المذكرات على نطاق عالمي واسع.

2-      تنص بعض عقود الزواج المدني التي تجري بين مسيحيين ويهود على كيفية لاهتمام بالأعياد. عيدا المسيحيين مصدر غيظ عظيم لليهود، ولاسيما منهما عيد الفصح الذي هو العيد الكبير. بعض العقود – كما قرأت ذات يوم—تلغي الاعياد الدينية من جدول الايام المحتفى بها صيانة للسلم بين الزوج والزوجة. تلازمني منذ فترة طويلة فكرة توسيع نطاق المشترك المواطني على حساب المفرق المواطني. هل من الممكن فعل ذلك دون التعرض لتهمة او مظنة التهاون في شأن الدين؟ تجارب العالم في هذا المجال غنية، وتبقى، مع ذلك، مثيرة للنقاش الحاد اليومي. ما موقعنا في سورية ومواطنتها من هذا الامر. ذات يوم سمعت من احد وزراء التربية القدامى انه كان من تقاليد وزارة التربية الا تبتدئ الامتحانات العامة ايام السبت او الاحد. ذات يوم طرق علي باب المنزل دون موعد وزير جديد فني ممتاز في وزارة شكلت في السبعينات. سألني واجبته وغادر وكل ذلك في دقيقة واحدة. قال: ادعو الى اجتماع في الساعة الحادية عشرة فيتغيب ثلثا المدعوين فما العمل؟ اسألكم هنا ولنتباحث: هل يمكن ان نضع خطة متوافقة مع الدين يكون بها منا الواحد مواطنا متساويا مع غيره من المواطنين، بنسبة غالبة، في معظم ساعات الليل والنهار؟ من غير الواقعي حذف خصوصية كل فرد، الا ان من الواقعي، بل من الواجب، توسيع مساحة المواطنة. أدعو الى نقاش مستنير في هذا الامر. ولنتذكر ان فرنسا، دولة فلسفة المواطنة الاولى، حظرت منذ سنوات البروز السافر للانتماء الديني، ضمن الفضاء العام، في مظهر الشخص الخارجي. ونعرف ان تطبيق ذلك الحظر – حرفيا -- تشوبه معوقات كبرى، لكنه نوع من التذكير بالحرص على قيم مشتركة. ثم فلنتذكر دائما ان فهمنا للدين متطور. كان الطفل الكاثوليكي "لا يخلص" إذا انتقل الى رحمة الله قبل العمادة. منذ عشرين عاما تقريبا تغير الاجتهاد. غدا يخلص. أفتى الازهر قبل بضعة عقود بحرمة ممارسة الانثى حق التصويت. غدت منتخبة (بفتح الخاء) في المملكة الوهابية. الشريعة مصدر التشريع، وأحيانا المصدر الاساسي أو الرئيسي، وأحيانا الوحيد، إلا ان الدول الاسلامية التي ما تزال تمارس ايقاع العقاب البدني بالبتر نادرة، وتعتبر شاذة عما يشبه الاجماع العام. يقال، او اقول، في امتداح الحكيم: انه عاقل، يطور الفكرة الصائبة، ليس الى اقصاها، بل الى مداها المعقول.

3-      قرأت في البعث يوم الخميس 7 – 1 – 2016 اعلانا عن مسابقة تجريها وزارة الخارجية السورية لاختيار دبلوماسيين، المادة الثالثة من المواد التي سيتم بها الامتحان " التاريخ الحديث لسورية والتطورات السياسية الراهنة في المنطقة والعالم". في مذكرة رسمية مني الى رئيس مجلس الوزراء، بتاريخ 2 – 12 – 1992 قلت ان سورية هي الغائب الاكبر في مسابقة الخارجية. المادة الثالثة ي المسابقة الجديدة كان نصها " التاريخ السياسي الحديث". لم ترد كلمة سورية. هل اخذت الخارجية بوجهة نظري اعتمادا على مذكرتي؟ اعتمادا على اجتهاد مواز من غيري؟ هل انتبهت خارجيتنا الى سورية في مسابقاتها قبل المسابقة التي ستجري قريبا؟ لا أدري، لكن حسنا فعلت اذ اهتمت بالتاريخ الحديث لسورية. ما علاقة ما سبق بموضوع ندوتنا وهو المواطنة؟ خاطرتي الثالثة خطيرة ومباشرة. غيبنا سورية في اهتماماتنا الثقافية والسياسية، تفاقم جهلنا بأحوالنا عن طريق العلم. تركز علمنا بأحوالنا عن طريق لا بد منه وهو الامن. استبعدنا كل طريق آخر في فقهنا احوالنا. فوجئنا بما جرى. تحدث بجرأة الرئيس بشار الاسد عن فشل اخلاقي وعن فشل في مواكبة تطورات التكنولوجيا. اهتممنا – مثلا -- بإحداث موسوعة عربية ننافس بها العراق، ولم نأخذ باقتراح وصل الى سلطاتنا العليا بأفضلية استخدام قدراتنا بان تكون لنا موسوعة عن دولتنا السورية. اغفلنا تاريخ سورية المعاصر. اغفلنا النظر الى تطورات المجتمع السوري. اغفلنا النظر الى جغرافية دولتنا. صارت معلوماتنا عن سورية تأتي الينا من الخارج. خط الكتاب الاول عن القائد المؤسس قلم بريطاني. وها نحن في الاسبوع الثاني من العام الجديد ولم نعلن بعد عن احداث هيئة تعنى بالاهتمام بسبعين عاما من الجلاء. الجلاء مدرسة المواطنة السورية الاولى وتبقى الاهم. اختم كلمتي اليوم اذن بما سيحدث نتيجة ما قلت، متحالفا مع المستقبل القريب: فلنعلن اهتمامنا منذ اليوم بذكرى الجلاء من اجل تغذية جوهر المواطنة السورية، ولكي نكتب جلاء الارهاب عن الديار بعزيمة حماة الديار، عليهم وعليكم السلام.