الأحد، 9 ديسمبر 2012

البطريرك هزيم في ملمحين



فادحة خسارة سوريا والمسيحية والعرب والمسلمين والانسانية بغياب غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم، المتألق دائما بالحق. الا ان مواقفه وكلماته تبقى ذخرا يضيء الطريقمهما تعمقت العثرات.

 ورغم انني لم اكن وثيق الصلة اليومية به، الا انني، في بعض اوقات مفصلية، كنت اتشارك مع غبطته في أهم ما يشغله.

واذ نقف اليوم في حضرته وهو في حضرة الله، فمن واجبي رسم ملمحين له يعود اولهما الى اربعة عقود، بينما لم تمض على ثانيهما الا اقل من اربعة اعوام.

جمعتني في لقائي الاول به قضية فلسطين. كان ذلك يوم الاثنين 8/ 9/ 1972.

رجل دين مشرقي يرأس اجتماعا في قاعة كبرى بجامعة بريطانية. يدير الحوار باقتدار وفصاحة ومحبة. الاجتماع حصيلة جهد مجموعة كانت نشطة في دعم قضية فلسطين اسمها: "رابطة المسيحيين من اجل فلسطين". الشخص الاول فيها فرنسي مقاوم للنازية هو الاسقف جورج مونتارون. نجومها المتألقة في بلادنا العربية امراء الكنائس العربية و المشرقية. مناصروها علمانيون (اي من غير لابسي الثوب) من مختلف الديانات والقارات. قبل ايام من الاجتماع كانت حادثة ميونيخ.
لم اكن اعرف اسم رئيس الجلسة. همس الجالس بجانبي، السيد دنيس هيلي، وزير الدفاع البريطاني الاسبق: "علي مغادرة الجلسة الآن. اودعك وصية. قل لرجل الدين المترئس انه بأسلوبه البرلماني في ادارة الجلسة يتفوق على ابرع برلمانيي مجلس العموم البريطانيين". انتهت الجلسة. شققت طريقي الى المطران هزيم، مطران اللاذقية، والناس محيطة به. نقلت اليه كلام هيلي. سألته: "من اين انت يا سيادة المطران؟". اجابني بالعربية: "من محردي (بالياء لا بالهاء)". اجبته ضاحكا فاضحكته ومن معه: "سيدنا. بالانكليزية لهجتك اوكسفوردية. وبالعربية هي اكثر ضيعجية من لهجتي".

كان، رحمه الله، يسر حين استعيد قصة ذلك اللقاء
. متمسكا بتراثه الريفي كان، ومحلقا في آفاق الثقافة العالمية في آن. قلت: جمعتني به قضية فلسطين. ولم تغادره. جمعته بكل السوريين والعرب والمسلمين والانسانية. تألق في مؤتمر قمة الطائف الاسلامي (1982)، يناجي القدس من على مقربة من مكة. أليس هو بطريرك العرب؟ بل الخامس في سلسلة بطاركة  اعتبر فيلسوف القومية العربية، ساطع الحصري، انتخاب اولهم لسدة بطريركية انطاكية للروم الارثوذكس، اول تبلور فعلي للقومية العربية؟

ملمح ثان من صاحب الغبطة لا يفارقني من اوائل عام 2009 رغم انه لم يكن غائبا عني وعن عارفي غبطته قبل ذلك التاريخ.

في 2/ 7/ 1979 كان انتخابه بطريركا. خطر في بال بعض الاصدقاء ان تكون ثمة وقفة مع الذكرى الثلاثين لتسنمه السدة. وقع علي ان افاتحه بالأمر. على مدى ساعة في لقاء ثنائي حاولت اقناعه بألا يعلن معارضته الفكرة. لم افلح. كان رفضه حازما في ان يكون له تكريم. في ان يكون ثمة احتفال بالذكرى الثلاثين. وكانت مشيئته.

فادحة الخسارة بغياب غبطة البطريرك. غادرنا الى الاخدار السماوية. اما نحن فننتصر على الغياب حين نردد: "فليكن ذكره مؤبدا من الآن والى دهر الداهرين".

جميع الحقوق محفوظة - © جريدة النهار 2012