السبت، 20 أكتوبر 2012

حسني الزعيم ومازن صباغ وتوثيق تاريخ الدولة السورية

(1)

أبدأ بخلاصة ما سأقوله مفصلاً في هذا المقال:

أوجه للصديق الأستاذ مازن صباغ الشكر والتهنئة على ما يقوم به من جهد في توثيق تاريخ الدولة السورية، وأرجو منه أن يحرص على مزيد من الدقة في عمله الدؤوب الذي أراه مفيداً لكل السوريين في نشر ثقافة المواطنية السورية عن طريق التعريف بتاريخ الدولة السورية.

(2)

قرأت في إحدى الصحف خبر إصدار الأستاذ مازن كتاباً عن الانقلاب العسكري الأول في سورية. سألت عنه في بعض المكتبات فما وجدته. قمت بخطوة قد لا يحبها كل المؤلفين. اتصلت بالصديق المُعدّ. وبأريحيته المعهودة وصلني الكتاب. أقبلت عليه بلهفة. حين وقع انقلاب الزعيم كنت في عامي الحادي عشر. صورة حسني الزعيم ببزة المارشالية وعصاتها وبالمونوكل (نظارة بعين واحدة) تركت أثرها في نفسي وأنا في ذلك العمر الغض. ربما أنني أخذت منذ ذلك الوقت أتابع الصحف والإذاعة. وصلني الكتاب، فلم يكن من السهل مقاومة سحر العودة إلى تلك الأيام. أقبلت عليه. إلا أن إقبالي توقف عند السطر السابع من الصفحة الثامنة. صدمني خطأ فانقطعت قابلية القراءة. ورد في ذلك السطر المشؤوم ما يلي: ”وفي 29/3/1949 جرت انتخابات نيابية...” كلا! لم تجر انتخابات نيابية في ذلك التاريخ. مضت أيام من الحيرة الصامتة، ثم غلبني الشوق إلى الكتاب رغم الصدمة الأولى. عاودت القراءة بحذر. أمضيت مع الكتاب ساعات كانت حصيلتها فائدةً شعرتُ بها وملاحظاتٍ وقفت عندها. أحببت أن أهمس بها إلى الصديق مازن. لكنني فضلت أن أتشارك فيها مع القارئ الكريم.


(3)

الكتاب قيم. في نحو مائتي صفحة (7 – 200) ثمة أهم الوثائق الخاصة بحكم انقلابي دام /137/ يوماً من 30/3/1949 حتى 14/8/1949. أثبت كلمات مازن صباغ عن هذه الصفحات كما وردت في ص /9/:

”توخينا في كتابنا ومن خلال /105/ فقرات الحديث عن أغلب تفاصيل الانقلاب والفترات الخطيرة فيه، ولاسيما الأعمال والبلاغات العسكرية والبيانات السياسية والقرارات الإدارية وبعض التأييدات الشعبية ومن مختلف المحافظات والفئات والجهات السورية. كما تم الحديث عن العلاقات السورية العربية بعد الانقلاب مثل العلاقة مع الجمهورية اللبنانية والمملكة العراقية والمملكة العربية السعودية والمملكة المصرية. كما رصدنا علاقات قيادة وزعيم الانقلاب مع الدول الغربية والاعترافات من قبل الدول الأوربية بشرعية الانقلاب”

إلا أن معظم الصفحات الباقية من الكتاب كانت الأكثر حظوة عندي. كيف يصف المعد الصفحات من 203 إلى 293؟ فلنقرأ من ص /203/ العنوان المطول لها:

”آراء ومواقف وملاحظات في الانقلاب العسكري الأول بقيادة الزعيم حسني الزعيم... وهي وجهات نظر أصحابها وكتابها وتعبر عن آرائهم بشكل دقيق وصريح. ملاحظة: وتوخياً للوصول إلى الموثوقية والحقيقة فقد اعتمدنا أخذ عدة توجهات ومن جهات مختلفة الانتماء والمشارب كي نستطيع إيفاء موضوع الكتاب حقه”.

ثم تتوالى شهادات بأقلام كلٍ من (مع حفظ الألقاب) خالد العظم، وأكرم الحوراني، وأحمد عبد الكريم، وأسعد الكوراني، ومحمد سهيل العشي، ومعروف الدواليبي، وباتريك سيل، ونصوح بابيل، ومصطفى رام حمداني.


(4)

أعود إلى الجزء الأول من الكتاب، الخاص بالفقرات الـ /105/

في الفقرة /53/ (ص113) نقرأ المرسوم رقم /8/ في 3/4/1949 وبموجبه شكل قائد الانقلاب لجنة تحقيق بمساوئ العهد الماضي. نص المرسوم على تشكيل لجنة من خمسة أعضاء منهم قاضٍ وضابط في الجيش. من هم الخمسة؟ القاضي خليل رفعت والمقدم عزيز عبد الكريم. الثلاثة الآخرون هم عبد الواب الطيب والمحامي أكرم الحوراني (الذي اعترض – كما في الكتاب) و د. رزق الله أنطاكي.

أقرأ في تشرين أول 2012. أتساءل: ماذا فعلت اللجنة؟ لا أدري، أتساءل: هل بالإمكان متابعة ما فعلته عن طريق أوراق محفوظة أو عن طريق الصحف؟ لا أدري.

في الفقرة /56/ (ص119) نقرأ عن مرسوم تشكيل لجنة لوضع مشروع دستور جديد وقانون جديد للانتخابات من السادة: أسعد الكوراني (رئيساً) و د. عبد الوهاب حومد، وحسن الزين (حسن لا حسني كما ورد في الكتاب خطأ) وجورج جبارة.

أقرأ فأتذكر أنني قرأت ذات يوم ما أحسب أنه كان مشروع دستور الزعيم. احسب انه وصلني من الاستاذ جبارة وأنني علقت عليه في مكان ما من كتاباتي عن التاريخ الدستوري السوري. في الذاكرة أنني أشرت إلى أنه لا يتحدث عن دين لرئيس الجمهورية.

في الفقرة /60/ ص /133/ نقرأ نص مذكرة حزب البعث العربي إلى زعيم الانقلاب في 5/4/1949 بتوقيع ميشيل عفلق، عميد الحزب. وبالمناسبة وبسرعة. هل يستطيع كتاب عن حسني الزعيم أن يهمل رسالة عفلق إلى حسني الزعيم وبها يعهد اليه -الى الزعيم- بحزب البعث؟ استطاع الكتاب ذلك. لماذا؟ لا أدري. هل هو التعتيم على اسم عفلق وهو تعتيم ينقشع؟ ربما. اطلب من المعد ان يشرح.

بعدها مباشرة، في الفقرة /61/ ص /137/ نقرأ مذكرة جماعة الإخوان المسلمين في 7/4/1949 إلى زعيم الانقلاب، هي بتوقيع عمر بهاء الأميري. الأمين العام للجماعة.

مَنْ يا ترى من القراء الكرام من منهم سيقوم بمهمة المقارنة بين المذكرتين؟ قمت بمقارنة سريعة فوجدتها مفيدة الى حد لا بأس به في فهم ما نحن فيه الآن من أحداث.

أعود إلى الفقرات التي تتسلسل بإتقان. في الفقرة /86/ ص /177/ نص ما ذكره نذير فنصة، عديل الزعيم، عن مؤامرة تسليم الزعيم أنطون سعادة إلى السلطات اللبنانية، من ثم إعدامه. النص مأخوذ من كتاب فنصة: أيام حسني الزعيم: /137/ يوماً هزت سوريا (بيروت، 1982).

ذلك أمر باقٍ معنا. في8/7/1949 أعدمت السلطات اللبنانية الزعيم سعادة وتبقى ذكراه حية في ضمائر الكثيرين منا. تشهد بلاد الشام احتفالات استعادية بالذكرى. بل ذات يوم سألني الدكتور سمير حجار، منفذ عام دمشق في الحزب السوري القومي الاجتماعي آنذاك أن ألقي محاضرة بالمناسبة. فعلت، كان ذلك عام /2008/ في المركز الثقافي بالمزة. الجمع حاشد ولمحت دموعاً تكفكف وأنا أتحدث.

في الفقرة /91/ ص /197/ نقرأ عن مرسوم بتعيين لجنة مكلفة بوضع مشروع الدستور مؤلفة من /8/ شخصيات. لا أدري ماذا فعلت وسأكون سعيداً إذا تابع أحد الباحثين أعمالها من خلال الصحف ولاسيما أنها استقدمت من مصر الفقيه الدكتور عبد الرزاق السنهوري، القانوني الشهير وصاحب القانون المدني في نصيه السوري والمصري.

وحديث القانون المدني وكيفية إصداره حديث يطول، طالما استمعنا إليه في كلية الحقوق في النصف الثاني من الخمسينات.  المحدث العلامة الأستاذ الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء. لاذع في نيله من ”طبخة” أنضجها على عجل  الوزير القاضي المحامي  الأستاذ أسعد الكوراني.  أنهت الطبخة العمل بمجلة الأحكام العدلية -وزينتها قواعدها الـ /99/- . ولي عودة قريبة إلى هذا الأمر.

(5)

لعلي قدمت للقارئ مختصرا مفيداً عما ورد في الجزء الأول من الكتاب. آتي إلى الجزء الأكثر إغراء وهو شهادات معاصري الزعيم والمشتغلين بالتاريخ السياسي للدولة السورية.

في مذكرات خالد العظم وصف دقيق للعلاقة المتوترة بينه وبين حسني الزعيم قائد الجيش آنذاك. كان العظم رئيساً لمجلس الوزراء حين وقع الانقلاب. يورد العظم نص مذكرة الجيش المرفوعة إلى رئيس الجمهورية بشأن بعض المطالب وأهمها أن نواباً تهجموا على الجيش في مجلس النواب فلم تقم الحكومة بالتصدي للتهجم. مذكرات العظم وثيقة هامة جداً في التاريخ لجذور الانقلاب.

أما أكرم الحوراني فيصف انقلاب الزعيم بأنه أمريكي (ص /220/). كذلك يورد نص قسم فرضه الزعيم على الموظفين يؤكدون به أنهم لا ينتمون إلى أي حزب سياسي (ص /222/)، في الخلاصة التي استهللت بها هذا المقال أشرت إلى ضرورة تحري الدقة ومزيدٍ منها. نص قسم الموظفين لم تذكره فقرات الكتاب المتسلسلة. ثم أن الحوراني يجعل مذكرة حزب البعث مؤرخة في حزيران (ص/224/) لا في نيسان كما في الفقرة /60/.  من الواقع في الخطأ؟ الحوراني ام المعد ام المنضد؟.

واستهواني في شهادة أحمد عبد الكريم شرحه لأسباب اتجاهه نحو العناية بقضية فلسطين (ص /228/) وهي قضية بقيت معه حتى الآن. تألقت به وتألق بها. أمد الله في عمره.

أما المختارات من مذكرات أسعد الكوراني فقد جاءت خالية من تفاصيل ”طبخة” القانون المدني. لم أطلع على مذكرات الكوراني إلا أنني أحتفظ بما ذكره مفصلاً عن الموضوع المحامي فتح الله الصقال، وكان على الكتاب أن يورد تلك الشهادة. الكوراني اللاذع واللماح – وقد شاء لي حسن حظي لدى عملي معاوناً للنيابة العامة في اللاذقية عام 1960 فرصة تبادل الحديث معه – كان يفتخر دائماً بما أنجز، أي بالقانون المدني. لذلك أستغرب أنه لم يشرح الأمر في مذكراته. فإن فعل، والمذكرات ليست لديّ، فإنني أستغرب ألا يأخذ معد الكتاب منها ما يختص بالقانون المدني[i] .إلا أن المخيف في شهادة الكوراني كلامه عن أن موفداً للزعيم إلى مصر طالب مضيفيه بأن يقدموا له ”مصاري” مبدياً عدم اكتراثه بالوسام الذي منحه! (ص /243/).

أهم كتاب تحدث عن أسرار الزعيم –في نظري- هو كتاب مايلز كويلاند: لعبة  الأمم المترجم إلى العربية.  لديّ نسخة منه ولكني لم أبذل الجهد، لدى الكتابة، للعثور عليها. إلا أنني سررت لأن هذا الكتاب الذي كان ينبغي أن يحضر بكامل ما قاله عن الزعيم في كتاب صديقنا مازن، لم يغب كلية. إنه يرد في مذكرات معروف الدواليبي (ص /254/).  لماذا غاب كتاب كويلاند عن كتابك يا استاذ مازن؟ لا أدري. ثم إن الدواليبي يحدثنا عن اتفاقية النقد مع فرنسا وهي أمر هام في تاريخ الانقلاب.

أما المخضرم في الكتابة عن سورية، وأقصد به باتريك سيل، فقد حدثنا عن الزعيم حديثاً مفصلاً في كتابه: الصراع على سورية وهو كتاب مترجم في سورية وواسع الانتشار فيها رغم أن تداوله ممنوع بقرارات رسمية. يركز سيل على شخصية الزعيم المضطربة مستشهداً بما وصل إليه من خلال وسائله المتعددة في التقصي.

وتأتي شهادة نصوح بابل بأسلوبها السلس لتروي حكايات تحلو قراءتها.

ويعود بنا موفق رام حمداني إلى الأثر الخارجي على حسني الزعيم فيقول بوضوح أن الزعيم ورئيس وزرائه ”ذهبا ضحية الصراع على مناطق النفوذ بين الامبريالية الأمريكية والسياسة البريطانية (ص /290/). قوله هذا يعتمد، لا ريب وبحسب ما أرى. على كويلاند، والله أعلم.

وتبقى ملاحظة خطيرة أقنعتني بالبوح بها صفحات الكتاب الأخيرة التي تورد نص اتفاقية الهدنة بين سورية وإسرائيل في 20/7/1949.مباشرة بعد حرب تشرين التحريرية عام 1973، وكنت مديراً للدراسات في القصر الجمهوري، تعبت والعاملون معي في المكتب ونحن نبحث عن نص اتفاقية الهدنة. سألت وزارة الخارجية موافاة القصر بصورة عنها. لم توجد. اعتمدت في دراسة القرار /338/ ثم في دراسة مشروع اتفاقية فصل القوات، على النص كما ورد في كتاب للمؤرخ الفلسطيني الكبير الأستاذ محمد عزة دروزة.

(6)

يأتي بنا حديث الهدنة إلى آلام الوثائق السورية. ندب الأستاذ مازن نفسه للقيام بعمل بالغ الأهمية هو تأريخ الدولة السورية عن طريق الوثائق. تعب وأجاد ولم يبلغ الكمال الذي هو لله وحده. كيف يمكن له أن يحسّن من الصناعة التي ارتضاها لنفسه؟ الجواب ملكه. لكنني أهمس في أذنه بأمرين. الأول: ما زالت في جعبتي مآخذ على الكتاب غير التي المعت إليها. أطلعه عليها إن شاء لصالح طبعة ثانية. الثاني: تابع يا رعاك الله. فما لا يدرك كله لا يترك جله أو بعض جله. أشكرك وأهنئك. أعادني كتابك إلى أيام الصبا وفتح دفتر ذكريات مخبأة. ورحم الله من توالوا على حكمنا. نواياهم طيبة والحصاد كما نعلم.



[i] - أتى المحامي أسعد الكوراني إلى اللاذقية في أحد أيام عملي معاوناً للنيابة العامة في تلك المدينة بين تشرين أول 1960 وتموز 1961، شغل الجسد القضائي آنذاك بدعوى أحد طرفيها العلامة الأستاذ جبرائيل سعادة، عاشق أوغاريت وخادمها، وقد اختار الكوراني وكيلاً عنه. كان من عادة القضاة تناول طعام الغداء في مطعم اسمه: نادي مارين يديره شقيقان يحسنان صناعة إرضاء أصحاب المذاقات. كنت وحيداً على طاولة أتناول طعامي وعلى طاولة مجاورة الأستاذ الكوراني يتناول طعامه. اقترب أحد حاجبي المطعم من الكوراني ثم أتى إليّ. قال: يود الأستاذ أن يجلس معك على طاولتك هل لديك مانع؟ رحبت. جدية المحامي اللامع اللماح وجبه شهية لا يشبع منها. سألته أن يحدثني عن كيفية صدور القانون المدني. استفاض. ذكرت له ما يعرفه: في كتاب مقرر دَرَسنا أن مجلة الأحكام العدلية دفنها بعض الكفار. أضاءت وجهه ابتسامة كبرى وأعلمني دون أن أسأله أنه مسلم سني! وللعلم فإنني أضع أمامي في مكان بارز صفحتين تتضمنان القواعد الفقهية الـ /99/ التي تبتدئ بها مجلة الأحكام العدلية. ويبقى القانون المدني معلماً من معالم تطور قانوني لابد منه.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق